ثم تسكن إلى الأفنان لتملأ الدنيا هديلاً، وتبشر المحبين برسالة رامي. . . رامي الذي يقول منذ ربع قرن:
تغلغل الحب في فؤادي ... تغلغل الماء في الغصون
وأرسل الحسن في قريضي ... من نوره الواضح المبين
فجاء أحلى من الأماني ... بَسمن لليائس الغبين
وجاء أشجى من الأغاني ... نَديَن بالوجد والحنين
يا ريشة الوهم صوّري لي ... في صفحة الخاطر الحزين
ما جف من يانع جَنيٍ ... وغاض من سلسل مَعِين
ويا طيور الخيال خفي ... في دولة الليل والسكون
وابكي فضاء صدري ... ورجعّي من صدى أنيني
ورفرفي في على فائت تقّضي ... ترفضّ من ذكره شئوني
ويخيل لي، وأنا أردد هذا الشعر الجميل من شعر رامي الذي حفظته منذ ذلك العهد، أن أحداً من الناس لا يستطيع أن يكتب عن رامي دون أن يغازل الشعر قلمه كما يغازل قلمي الآن. وللكتابة عن الشعراء الممتازين أو الأدباء الممتازين خطط متنوعة سهلة كلها، يسير على المؤرخ أو الناقد. . . ولعل أصعب هذه الخطط وأشدها عسراً على الناقد أو المؤرخ، هي تلك التي يغازل الشعر فيها قلمه، فلا يدعه يقول ما يريد، ولا يتركه يسير في تلك السبل السهلة المعبدة التي سار فيها الكتاب قبله. فيبدأ بكلمة عن نشأة الشاعر والبيئة التي أرضعت بلبانها خياله وغذت بثمارها وجدانه، وسلطت ظبائها وألوانها وأضواءها على قلبه تنوشه وتطبع على شغافه الأحمر والأصفر والوردي والبنفسجي، وتضوّي سويداءه استعداداً لتلقي وحي السماء ثم يتناول بعد ذلك الظروف التي هيأت للشاعر قول الشعر، ومما يتردد في تلك الظروف من غزل ونظر ودعابة، تنقلب آخر الأمر إلى قلب يرتجف ولسان يتلجلج، ودمع يترقرق وعين مؤرقة، وكبد محترقة وخيال كامل شامل يتسع للأرض والسموات، ويد تتناول القلم، هذا المخلوق العجيب، فتسجل الآيات البينات، ترسلها كلاماً موسيقياً موزوناً حافلاً بالمعاني الفريدة، ثم يفرغ - أي الكاتب أو المؤرخ - إلى شعر هذا الشاعر ينقده ويزنه، ويظل يقول لك هذا جيد وهذا رديء، وذلك متوسط، وذاك غامض،