لما زرت بابل في سنة ١٩٣٧ بحثت عن البرج المشهور في التاريخ، ولكني لم أهتد إليه، برغم ما بذلت من العناء في التعرف إلى ما هناك من رسوم وأطلال
فكيف بخلت الأقدار بحرماني من الاهتداء إلى معالم ذلك الأثر النفيس، وكان أول رمز لما فطرت عليه الإنسانية من تنافر الآراء وتناحر الأهواء؟
كان برج بابل خليقاً بالخلود، لو عرف بنو آدم مغزاه الدقيق، فصانوه من عوادي الزمان. وهل كانت بلبلة الألسنة حول ذلك البرج إلا إيذاناً بأن الإنسانية شبت عن الطوق، ولم يبق إلا أن تنتفع بمزايا الشقاق والنزاع والخلاف، وهي معان ظاهرها قبيح، وباطنها جميل؟
لو عاش برج بابل لكان مزاراً من أقدس المزارات، فحول رحابه طارت أول شرارة من ضريم الصراع بين الأجناس والألوان، وبين حناياه ذاق الإنسان الأول مرارة الحيرة، وهي مرارة جزيلة النفع، وأن كانت كريهة المذاق
ولو عرفنا تاريخ برج بابل لعرفنا في أي عهد بدأ الصيال بين الألسنة والعقول؛ فما نطمئن إلى ما قالت الأساطير في تحديد ذلك التاريخ، وهي لا تبعد به غير عشرات من القرون، وأنا أكره أن تصدق تلك الأساطير، لأني أحب أن يكون عهد أسلافنا بالخلاف أبعد من تلك القرون بآماد طوال طوال طوال
لو عثرت على برج بابل، أو اهتديت إلى شيء من رسومه الهوامد، لأضيف أسمي إلى أسماء من خدموا الإنسانية بكشف بعض المجاهيل من حسبها العريق
ولكن الحظ أراد غير ما أريد، فلم أعرف من بابل غير ما يعرف سواد الناس، ولم أشهد غير بقايا الحدائق المرفوعة فوق قواعد من الجدران، وهي جدران لم يفكر في هدمها الزمان، فبقيت شاهداً على مطامح أهل بابل في السمو العلاء
لابد من برج بابل، لابد، لابد، ولن استريح أو أهتدي إلى مكان ذلك البرج، فهو المهد الأول، المهد الذي نشأت فيه شياطين الخلاف، والخلاف هو صاحب الفضل في تأريث جمرات العقول، ونزوات القلوب، وشهوات الأرواح، وبدوات الأحاسيس