من رأيي الذي شرحته قبل الآن أن الحروب والثورات تشحذ ملكات الخطابة ولا تشحذ ملكات الشعر، بل تلجئها أحياناً إلى الصمت والركود، لأن الشعر (فردي) والخطابة اجتماعية تنشط بنشاط الجماعات، وتؤدي عملاً لا غنى عنه في أيام الحروب والثورات
وما يروج من الأناشيد والأغاني في إبان الحرب أو الثورة، فإنما حكمه حكم الخطابة، لأنه يتردد بين الجماهير في حالات الاجتماع ولا ينظم بداءة كما تنظم القصائد التي يترنم بها الشاعر على انفراد
وقديماً نظمت الملاحم الكبرى عن حروب الأمم البائدة، فخيل إلى بعض الناقدين أن الملاحم تستدعي النظم وتلقح فراغ الشعراء، وهو في رأينا تخيل خاطئ، لأن اتخاذ الملاحم موضوعاً شعرياً لا يستلزم أن يزدهر الشعر في أيام الحروب، كما أن وصف إنسان في قصيدة لا يستلزم أن يكون ذلك الإنسان من عرائس الشعر التي توحي المعاني وتفتق الخواطر، وقد يكون في حقيقته على نقيض ذلك
ولقد كانت الملاحم فيما مضى تنظم على سبيل التدوين والتخليد بعد انقضاء عهدها بزمن طويل أو قصير، وكانت هذه الملاحم المنظومة هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين. فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر في الحياة وحوادث الأيام منها إلى سجلات الحفظ والتأريخ
فليست أيام الحروب من أيام الشعراء. ولعل الحرب من حروبنا الحديثة تشغل الملايين وألوف الملايين أعواماً، ثم تنجلي عن بضع قصائد مختارة لا تملأ كراسة واحدة ولا تساوي في عدد سطورها رواية من الروايات التي تمثل في بضع ساعات وموضوعها محصور بين رجل وامرأة، أو بين شرذمة قليلة من الرجال والنساء
إلا أن النفوس لا تخلو من الشعر في إبان المعامع والمذابح البشرية، فهي لا تميته ولا تحجر عليه، ولا تمنع الأذهان فينة بعد فينة أن تنصرف إليه، وكل ما هنالك أنها ليست