تستطيع الأمم أن تحتجز كل شئ دون الخروج من أراضيها إلا الثقافة فلا تستطيع قصرها عليها دون غيرها، فهي قسم مشترك بين العالم يدلف إليها كل فرد وتطلع عليها كل أمة، وتؤثر في كل من يصل إليها كما أنها تتأثر بما يصلها، وذلك أمر بَدَهي لا مندوحة لنا من الإقرار به. وثقافة الأمم منها ما تشارك فيه دون أن تكسوه لوناً خاصاً وهو ما يكون علماً خالصاً، ومنها ما تلبسه ثوباً إقليمياً حسب المؤثرات الخاصة التي توجد لديها ويبقى بعد ذلك عالياً في نزعته وأثره. هذا إلى أن ثقافة الأمم لم تكن في يوم من الأيام أثراً خاصاً من آثار أمة دون أخرى، فهي مزاج من ثقافات العالم القديم والحديث ترتكز كل أمة في ثقافتها عليه فلا يحق لنا إذا ما ذكرنا الثقافة اللاتينية مثلاً أن نقصرها على نتاج عقليات هذه الأمم بل يجب أن نقر أثر الأمم الإغريقية والعربية ونتيجة الثقافات الفرعونية والهندية وسائر الأمم القديمة التي حملت الثقافة الأولى في العالم، ونستطيع بعد ذلك أن نزيد عليها أثر الأمم الحاضرة في تغذية هذه الثقافات وتقدمها. والأمة العربية ليست بدعاً من هذه الأمم، فهي إنما تخضع لقوانين العالم، فالثقافة المصرية لم تكن في يوم من الأيام مقصورة في نهضتها على العقول المصرية كما أنها لا يمكن أن تبقى محصورة في دائرتها الخاصة، بل من الواجب الحتم أن تتعداها إلى غيرها من البلدان كي يظهر أثرها في التأثير في العالم، وقيمتها في المساعدة على تقدم الثقافة العربية. ومصر بما لها من الموقع الجغرافي، والبسطة في المال، والكثرة في السكان، تستطيع أن تباهي شقيقاتها الدول العربية في قطعها دونها شوطاً بعيداً في بناء النهضة الأدبية الحديثة؛ ويجب في الوقت نفسه ألا ننكر جهود سائر البلدان العربية على اختلاف هذه الجهود في القوة والضعف، إذ قام كل بلد بما يستطيعه من المشاركة في هذا الأمر. ولا يعزب عن بالنا أثر لبنان خاصة والبلاد السورية عامة في هذه المشاركة الفعالة؛ فنحن نعلم أن طلائع النهضة بدت في سوريا مسايرة لطلائعها في مصر أو متقدمة عليها بعض التقدم. ولئن استطاعت مصر أن تتقدم شقيقاتها