للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

في هذا المضمار فإن مرجع ذلك إلى أمور لا تتعلق بخصب العقلية المصرية، وضعف غيرها كما يفهم من كلمة الدكتور زكي مبارك في (العدد: ٢٩٥) من الرسالة. إذ يقول: (ولكني أتحداكم أن تثبتوا أن لبنان نبغ فيه أديب واحد، ولم يكن مصدر نبوغه الاتصال بالثقافة المصرية). ثم يقول في موضع آخر: (إن الأدباء السوريين لم يذوقوا طعم المجد الأدبي إلا بعد أن شربوا من ماء النيل). وإنما يعود ذلك إلى مؤثرات خاصة نستطيع أن نجملها في أربع نقط.

ترجع أولى هذه النقاط إلى ما وهبته مصر من خصب في التربة درّ عليها إخلاف الرزق في سهلها المخضوضر المعشب فتهيأ لها بذلك الأساس الذي تقوم عليه النهضات، وهو المادة التي استطاعت بها أن تبث البعوث في مختلف أشتات أوربا لتعود إليها بالغذاء العقلي؛ والبلاد السورية خاصة والعربية عامة صفر من المادة، فهي في لبنان جبل أجرد ضيق أكثر بقاعه لا يمكن سكانه من استغلاله إلا في أشهر معدودات من الصيف، ثم ينقلب بعد ذلك غطاء أبيض ناصعاً من الثلج يحول دون زرعه أو الاتكال عليه في كفايته حاجات السكان. هذا إلى أن المدن المنتشرة في منبطحة ليس لها من الموارد ما يهيأ لها أسباب الراحة وبلهنية العيش كما هيأتها طبيعة مصر لمصر. وسائر البلاد العربية يتكون أكثرها من صحارى محيطة بأطرافها وسهول ضيقة الأركان تنبت خلالها. كان من أثر هذه البيئة أن ضاق النبوغ العربي ذرعاً بهذه الحياة فكبت في مهده، ولم تتجمع له المادة التي تمكنه من استغلال هذا النبوغ فوجد في بقاع الأرض متسعاً لإظهاره، فاحتمل نفسه إلى مصر وما وراء البحار حيث استطاع أن يثبت هذا النبوغ ويؤكده، فكان أثره في مصر بارزاً في نهضتها وفي غيرها من بلدان العالم وبخاصة في أمريكا مركزاً كل التركيز. ولا يفهم من هذا أن مصر أو غيرها من البلدان هي التي أوجدت هذا النبوغ وإنما يعود ذلك إلى البيئة الأصلية ولم يكن من أثر البيئات الجديدة ألا أن ساعدت البيئة الأصلية على استغلال هذه الثروات العقلية الكامنة في زوايا الفقر والفاقة. ومن هنا لا نستطيع أن نوافق الدكتور فيما ذهب إليه من حملة كنا نرجو ألا تثور به حتى يقعد على مثل الألفاظ التي استقر عليها. ومع ذلك فإن الشعب العربي مع فقره وشدة حاجته إلى المادة استطاع أن يشارك في النهضة العربية بقدر ليس بالقليل، وبخاصة لبنان حيث الثقافة العامة في الشعب أكثر منها

<<  <  ج:
ص:  >  >>