للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[ما فعلت الأيام]

للأستاذ أحمد أمين

عرفته بالإسكندرية منذ عشرين عاما، شاباً رقيق البدن، ضئيل الجسم، مسنون الوجه، شاحب اللون، أظهر مميزاته الرقة والتواضع والتدين. حيي الطبع، شديد الخجل، إن جلس في قوم اعتقل لسانه، وأطرق رأسه. وأرخى عينيه؛ وإن صدرت منه هفوة أو شيء ظنه هفوة، تمنى لو ساخت به الأرض، وظل يحاسب نفسه ويطيل تأنيبها، فآثر الانفراد وأخلد إلى الوحدة، واستأنس بالوحشة، فقلّت معرفته بالناس، وقلّت معرفة الناس به، لا يعرف من العالم إلا مدرسته التي يدرس فيها، وبيته الذي يأوي إليه، ومسجده الذي يتعبد فيه؛ فأما الحياة وشؤونها، وجدها وهزلها، وملاهيها وألاعيبها، فلا يدري منها شيئاً. لا يجلس في مقهى لأنه يخلُّ بمروءته، ولا يذهب إلى تمثيل أو سينما لأنهما لا يخلوان من امرأة سافرة، ولا يشتري شيئاً من بقال عنده لحم خنزير خوفاً من أن تكون سكينته التي يقطع بها الجبن والحلوى قد مست الخنزير، فلا يطهرها مسح، إنما يطهرها عسل سبع مرات إحداهن بالتراب؛ ويغض طرفه إذا سار حذر أن تقع عينه على امرأة.

أعز شيء عليه في الوجود دينه، حياته كلها دين، ومثله الأعلى رجل ظهارته دين، وبطانته دين، تفتير عينيه في خشوع دليل على أنه قضى شطر ليله في عبادة ومناجاة، أسبل عليه الدين نوعاً لطيفاً من الرضى بالقضاء والقدر، فلا يأسى على فائت، ولا يجزع على ميت، ولا يستخفه الفرح لخير، ولا يغلو في الحزن على شر، راض بما كان وما يكون، فكل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيْس، كل أحكامه صادرة عن دين، فالرجل الطيب من تدين، ورجل السوء من لم يتدين، ويستحيل على رجل أن يكون طيباً إذا شرب كأساً من خمر، أو لعب لعبة ميسر، أو ترك صلاة أو زكاة - يوفق دائماً بين أعماله في الحياة وأوامر الدين، إذا أراد الرياضة ذهب إلى سيدي بشر لزيارته، أو لسيدي جابر لصلاة الجمعة فيه، أو أخذ جزءاً من (الأحياء) وذهب إلى (طابية قايتباي) يخلو فيها بنفسه ودينه وكتاب الأحياء. وإن أراد أن يحفظ شيئاً من الأدب حفظ في نهج البلاغة لأنه يجمع بين البلاغة والدين، وإن عرضت فرصة في دراسته للغة العربية خرج من اللغة إلى الدين، وانقلب واعظاً لتلاميذه، حتى استطاع أن يكوّن منهم فرقة دينية تلتزم الصلاة

<<  <  ج:
ص:  >  >>