كان الفلاح في القرن الماضي يكابد صِنفاً من الخَلق صورهم الله على مثال عجيب من خفة الصقور وفتكة النمور وهيئة الناس ليكونوا مذكرين بجبروته ومنذرين بعذابه! كانوا من الأرناءود أو الجركس؛ وكان عملهم جباية الضرائب على كل شيء، ومن كل شخص، وفي كل وقت، وبكل صورة؛ أو اقتحام الدور للبحث عن المحظور أو المحكور من الملح والصابون إذا اقتناهما أحد من غير طريق الحكومة. وكان سبيلهم إلى ذلك سبيل الإرهاب والعنف؛ فمتى دخل أحدهم قرية من القرى دخلها الفزع والروع فلا يملك السائر أن يتقدم، ولا الواقف أن يتكلم، ولا الداخل أن يخرج؛ ثم تخشع في القرية الحياة فلا تسمع حساً ولا حركة إلا هرير الكلاب وقوقأة الدجاج وصراخ الصِّبية! فإذا خرج منها (الجندي) كما كانوا يسمونه انطلقت من ورائه ضجة شديدة في البلد من بكاء المضروب وصراخ المنهوب ودعاء المضطرب!
فلما انتظمت أداة الحكومة بعد الثورة العرابية أنكمش هذا النوع حتى انحصر رهبوته في ضياع الأمراء و (جفالك) السادة. وكانت قريتنا وسبع قرى أخرى متجاورة قطائع لعلي باشا شريف في أواخر القرن الماضي؛ وكانت الإمارة والإدارة فيها لهؤلاء والأرناءود أو (الأرنطة) كما كنا نقول، ففرضوا عليها نظاماً في العيش أخذوه عن حياة الحيوان وعيشة العبد. فكان الناس، كما يحدثنا الباقون منهم، لا يملكون مالاً ولا حرية ولا حياة؛ وإنما كانوا يعملون بالتعذيب ويُغَلون بالكره، كما تعمل الماشية بلسعات السوط وهي صابرة، وتُغَلُّ الأرض بضربات الفأس وهي صامتة. وكان لفظ (المأمور) معناه الموت الذي لا عاصم منه ولا مهرب. ذلك أنه كان يخرج كل يوم على جواده إلى الحقول، شاكي السلاح، كاشر الوجه، منفوخ اللغاديد، مفتول الشارب، متوقد النظر، كأنه تمثال الرعب أو صورة الهُولة! ثم يسير متلفتاً ذات اليمين وذات الشمال لا لتفقد العمال ويتعهد الزروع، ولكن ليبحث عن إنسان يعذبه أو حيوان يضربه. والناس قد تعودوا منه ذلك فهم لا ينفكون طول النهار يرقبون ناحيته ويرصدون طريقه؛ حتى إذا أبصروه من بعيد غابوا في مخابئ الأرض كأنهم لم يكونوا! فإذا عاد من طوافه خائب السوط جلس أمام الدوار وأمر أن ترش الأرض وأن يلقي في وحلها من جاءه في طلب حاجة أو رفع مظلمة! ثم يصيح بالجلاد أن ينهال عليه بالكرباج، وهو في خلال ذلك يميد من الغضب ويبربر من الغيظ حتى تهدأ ثورته