وترضى كبرياؤه بعد لأي! وكان العمد والمشايخ منوطين به، فلا يسمعون الأمر والنهي إلا منه، ولا يرفعون مشاكل القرى وقضاياها إلا إليه. لذلك ظل أهلوها يجهلون أن لهم خديوياً غير علي شريف، و (نظاراً) غير نظار الزراعة، و (مأموراً) غير مأمور التفتيش. وكان هذا (الحاكم) كسائر بني جنسه مغلق الذهن مطبق الجهالة؛ يجهل الزراعة ولكنه يأمر، ولا يعلم القضية ولكنه يحكم، والجاني المحكوم عليه هو الذي يجرؤ على أن يعقِّب أو يعارض. وكان سادته لا يفوقونه في الذكاء ولا في الرحمة؛ فكانوا إذا زاروا هذه القرى - وقليلاً ما كانوا يزورون - تنكبوا بنادقهم وخرجوا يقتلون الوز في البرك، والحمام في الأجران، والكلاب على التلول والغربان على الشجر. ويراهم الناس فيرنون إليهم دهشين من طرابيشهم الحمر على وجوههم البيض، ويظنون أن وراء هذا الرواء جمال القلب وكرم النفس؛ فإذا دنوا منهم يسألونهم الإحسان والعدل زموا بأنوفهم ومضوا مستكبرين لا ينظرون ولا يجيبون!
أذكر وأنا صبي دون اليفاعة أن الناس كانوا يتحدثون عن جبار من هذا الطراز اسمه (زينل). كانوا عه كما يتحدثون عن البلاء، ويؤرخون بعهده كما يؤرخون بالوباء، لأنه أذلّ الفلاحين بالخوف والجوع، وأضاع شبابهم بين التربة والغربة. ولا تزال الألسنة هنا وهناك تتناقل هذه المأساة من مآسيه:
يقولون إنه كان في القرية من هذه القرى شاب لم تلد نساؤها أجمل منه وجهاً ولا أشجع منه قلباً ولا أرقعاطفة. وكان هذا الشاب بحكم شبابه وجماله وكرمه حبيباً لكل فتاة وصديقاً لكل فتى، ولكنه كان كلفاً ببنت عمه، فهي وحدها حافز عمله وغاية أمله وروح حياته
وفي ذات عشية من عشايا الصيف كان علي وليلى عائدين من الحقل وهما ينسمان بالحب الخالص، ويبسمان للغد المرجو، فغلبت على العاشق نشوة الطرب من جلال الطبيعة وجمال الفتاة، فقال وهو يقدم إليها آخر قطعة بقيت في يده من الحلاوة:
- ألا تشتهين شيئاً في الدنيا غير هذه الحلاوة يا ليلى؟
فقالت له ليلى بعد لحظة من الصمت الحالم:
- لا أشتهي بعد قربك يا علي إلا عنقوداً من العنب!
عنقود من العنب؟ إن الثريا أقرب إلى يديه من هذا العنقود! وهل رأى في دنياه العنب إلا