مضى على استشهاد المجاهد الخالد محمود فهمي النقراشي باشا سبعة وأربعون يوما ولا يزال الأسى على مصرعه يلوع القلوب، والأسف على فقده يرمض الأنفس! وعهدنا بالحزن على الزعماء العظماء أن يشتعل أوسع ما يكون الاشتعال، ويخبو أسرع ما يكون الخبو. ولم يمت زعيم إلا اختلفت الآراء في تعيين مكانته، وتفاوتت الموازين في تقدير كفايته. حتى أبو الأبطال سعد، لم تتفق على سياسته الكلمة، ولم تجمع على عدالته الأمة، ولم يصلّ على جنازته الملك. ولم يكن النقراشي الذي ظفر من الشعب والحكومة والعرش بذلك كله قد أوتي ما أوتي مصطفى كامل وسعد زغلول من ذكاء القلب في الخاصة، وبلاغة اللسان في العامة. ولم يكن الوعي القومي الذي قدره هذا القدر، ووضعه هذا الوضع، وبكاه هذا البكاء، خامد الفطنة كليل البصيرة سلس المقادة، كذلك الوعي الذي افتتن بمصطفى واستقاد لسعد.
وعينا القومي اليوم غيره بالأمس. ولئن نضج في هذا العهد لقد تقلب على أطوار الطبيعة ككل كائن برعما أخرجه دفء الربيع ففتّقه أبو الثورة سعد؛ ثم كان ثمرة سواها حر الصيف فقطفها أبو النهضة النقراشي. فالوعي المصري في هذا الطور يتأثر بالفعل لا بالقول، ويستجّر ُللعقل لا للهوى، ويفاضل بالمنفعة لا بالعاطفة. ومن هنا كان حزن الأمة العميق الشامل على النقراشي الذي كان يعمل ولا يتكلم، ويحارب ولا يخطب، ويصارح ولا يداهي، وينتصر ولا يباهي، وينتصف ولا يجابي، ويقدم ولا يتردد، ويهجم ولا يخاف؛ لأنه كان مقتضى الحال الأليمة التي كانت عليها مصر يوم تولى أمرها. والمصلحون كالأنبياء يبعثهم الله حين يستشري الفساد ويضطرب الحبل ويستبهم الطريق. كانت الحكومة مترددة تريد الحازم، والسياسة مستكينة تريد الأبي، والشهوة متوقحة تريد النزيه، والأمة متحيرة تريد الدليل. والنقراشي شهد الله كان أقدر على تصريف الأمر بعين لا تكسرها ريبة، ويد لا تقصّرها جبانة.
كانت حياة النقراشي ملحمة، وكانت ميتته مأساة! وكما يكون بطل الملحمة عبقري الصفات في خيال الفنان، كان النقراشي عبقري الصفات في واقع الطبيعة. ولكن بطولته كانت نمطا من بطولة الرسل: قوة في الروح تقهر النفس، وقوة في الخلق تقهر الغريزة. ومن لوازم القوة الروحية الصفاء والوفاء والعفة والكرامة؛ ومن لوازم القوة الخلقية العزم والحزم