قرأت بإعجاب هذا المقال الممتع الذي دبجه أستاذنا الكبير أحمد أمين عن النفوس وإشعاعاتها الغامضة المعقدة التي تشعر بها وقد لا نستطيع التعبير عنها، والتي تختلف باختلاف النفوس وتتعدد بتعدد نواحيها وطبائعها، فملك علي هذا البحث مشاعري وألقى بي في ذلك العالم الروحي الذي يقوم وراء هذا الحجاب الكثيف من المادة، حتى خلت نفسي أسبح في عالم من الأرواح أو أن حجرتي كما يقول الأستاذ (ملايين وأكثر من الملايين من إشعاعات نفسية تشع من السماء ومن الأرض ومن النفوس البشرية ومما لا يعلمه إلا الله).
على أنني ما كدت أعود إلى هذا العالم المادي وأقرأ المقال بعين الناقد المتدبر وأتحلل من هذا التأثر العميق بشخصية الأستاذ الكبير حتى أدركت السبب الحقيقي لهذا الأثر النفساني الذي يعزوه الأستاذ إلى أشعة تنبعث من النفوس والعقول لا تقل جمالا عن (إشعاعات النجوم والكواكب) وتختلف في القوة، اشد من اختلاف المصابيح الكهربائية، يقول الأستاذ:(إن هذا الإشعاع هو السر في أنك تلقى عظيما فيملؤك أثرا ويملؤك قوة بهيئته، بنبرات صوته، بطريقة تعبيره، بنظراته، بإشاراته، بهزة رأسه، بحركة يديه، فكأن في كل عمل من هذه الأعمال يوصل بينك وبينه تيارا كهربائيا قويا يهزك هزا عنيفا، قد لا يحدثك طويلا وقد لا يكون لكلامه في الواقع قيمة ذاتية، ولكنه يوقظ نفسك ويحيي روحك وتبقى رنات كلماته في الأذن الأيام والليالي تعمل عملها في هدوء حينا وعنف حينا)، كلام بديع يستهوي اللب ويخلب العقل ولكنك إذا أعملت فيه الروية والعقل وباعدت بين نفسك وبين أسلوب الأستاذ الأخاذ وشخصيته الجذابة أدركت غير ما يدرك، ووقفت على سبب آخر لهذا الأثر النفسي الذي يسميه الأستاذ إشعاعا ونسميه نحن:(شعورا بالعجز والضعة)، وذلك إن الإنسان لا يتأثر بعظمة عظيم، ولا خطابة خطيب، ولا حديث محدث، إلا لسبب واحد لا ثاني له، وهو شعور بعجز نفسه وانحطاطها عن مستوى هذا العظيم، وهذا الخطيب وهذا المحدث، قد يكون عاجزا أو ضعيفا، وقد يكون قويا أو رفيعا، ولكن شعوره بعجزه وضعته هو على كل حال السبب الوحيد في إكباره للعظيم وتقديسه للخطيب وإنصاته للمحدث وتأثره بغيرهم من الناس.
قد تكون درة عمر أهيب من سيف الحجاج لدى الناس، ولكن السبب في ذلك لا يرجع إلى أن أشعة قد انبعثت من نفس عمر فغمرت الناس بموجة من الجلال والعظمة. وأن أشعة