من نفس الحجاج قد غمرت أجسام الناس بالخوف والرهبة، ولكن السبب هو أن الناس كانوا يشعرون بشيء من الاستكانة أمام بطش عمر وجبروته، فاذا ما ذهبوا يحاولون النيل منه وتلمس سيئاته لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، لأنهم يجدون فيه الرجل المتمسك بالشريعة الذي لا تصدر أفعاله عن هوى، وإزاء هذا الشعور بالعجز المضاعف أمام هذه الشخصية يحس الناس بشيء من الخشية المشوبة بكثير من التعظيم والإجلال. أما الحجاج فكان الناس يشعرون بكثير من الخوف والهلع أمام سيفه نتيجة لشعورهم بالعجز عن مجاراته في أسباب بطشه للسلطة المخولة له عليهم، ولكنهم من جهة أخرى كانوا يستطيعون إحصاء ما كان يقترفه من السيآت والمنكرات، وما كان يقدم عليه من الإجرام والظلم، وهكذا كانوا يخافونه ويرهبوا جانبه لشعورهم بالعجز عن مقاومته، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يكرهونه ويشتد مقتهم له لاعتقادهم بأنه متخلف عنهم في الرحمة والعدل والإنسانية، وبالجملة فإن عمر والحجاج لم تنبعث من نفسيهما أشعة تؤثر في الناس، ولكن الناس هم الذين خلقوا هذا التأثير بهذا الشعور السلبي الذي استولى على نفوسهم، ولو أن حياتهم الاجتماعية والسياسية كانت تصبغهم بغير هذه الصبغة، ولو أن شعورا بالقوة والعظمة والرفعة استولى على نفوسهم لما ملأت نفوسهم عظمة عمر وجلاله، ولما ضربت عليهم الذلة والمسكنة وانكمشت قلوبهم خوفا ورعبا من الحجاج وسيفه وصولته.
قال الأستاذ:(وحدثني من أثق به أن الأستاذ جمال الدين الأفغاني كان يرتطن عجمة ولم يكن فصيح اللسان، ولا سلس القول، ولكن تجلس فيشعلك نارا دونها فصاحة الفصيح وبلاغة البليغ، لأنها النفس مستودع كهربائي قوي يصعق أحيانا، ويضيء أحيانا، ويدفع للحركة أحيانا) وهذا أيضا ينضوي تحت لواء ما قلناه، فقد كان المصريون في أيام الأستاذ جمال الدين بعيدين عن هذه الحرية الفكرية الغربية، وإن كان بعضهم يطمح إليها ولا يجد في هذا الجو المصري الخانق الرجعي مسعفا له على بلوغ مأربه، فلما حط الأستاذ رحاله في هذا البلد، هرع إليه بعض من هذه الفئة العطشى، ولشعورهم بالعجز في مضمار الفلسفة وما إليها مما كان يلقيه عليهم الأستاذ جمال الدين، ولموقفهم منه موقف الطلبة من أستاذهم كانوا يشعرون برهبة ورغبة في مجلسه، وتبدو لأعينهم وقلوبهم هذه التعاليم الجديدة التي يتلقونها نارا تلهب النفس وتشعلها وتتأجج في جوانبها حتى لتدفع بها إلى