للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من برجنا العاجي]

أمس خرجت من برجي العاجي إلى البرج الدائر. والبرج الدائر هو مرصد حلوان. دعاني إلى زيارته مديره الأستاذ مدور. وهيأ لي المنظار الكبير مسدداً إلى القمر. فذهبت يدفعني الشوق إلى استجلاء سر هذا الكوكب الجميل، الذي نظم فيه شعراء الأرض نصف شعرهم، ودان له عشاق الأرض بنصف هنائهم. ورفعت عيني إلى تلك العين الذهبية التي طالما رعت بنورها نصف حياتنا، وسهرت على مسراتنا، وسكنت من أحزاننا. نظرت، وإذا أنا أتراجع أسفاً وألماً. لا أحب أن أصف ما رأيت. ولكني أحب أن أسجد لله شكراً إذ جعل لنا عيوناً لا تبصر إلا بمقدار. إن كل الجمال المحيط بنا إنما هو من صنع عيوننا القاصرة. والويل لنا إذا أبصرت أعيننا الآدمية أكثر مما ينبغي لها أن تبصر.

ذلك شأن القمر باعث الجمال على الأرض. وكذلك شأن الشمس باعثة الحياة على الأرض. إنها تشرف علينا من مكان معين بمقدار. فإذا اقتربت منا أنملة هلكنا حرقاً، وإذا ابتعدت عنا أنملة متنا برداً. إن يد الحكمة الأزلية قد وضعتها في الموضع الذي لابد لها فيه من أن ترسل إلينا الدفء والخير والسلام.

ما أدق هندسة الكون! اللهم إني أعود إلى برجي وأنا شديد الإيمان بك، قريب الفهم لك، مدرك بعض الإدراك لمشيئتك في خلق الإنسان، مطمئن كل الاطمئنان إلى مراميك في إنشاء حواسنا الآدمية على هذا الضعف. إن ما اعتدنا أن نسميه ضعفاً وقصوراً في إدراكنا حقيقة الأشياء ليس إلا السياج الذي يحمي سعادتنا البشرية فإذا خرجنا عن نطاق هذا السياج فقد انقلبنا مخلوقات أخرى لا تتصل بالأرض ولا بجمالها ولا عواطفها. مخلوقات ليست آدمية، فقد ترى غير ما يرى الآدميون. وقد ترى أبعد مما يرون. ولكنها لن تكون من أجل ذلك أسعد ولا أسمى ولا أنبل.

اللهم إنك مع قصورنا قد صنعتنا على خير حال، ومع جهلنا قد هيأت لنا أحسن مآل.

توفيق الحكيم

<<  <  ج:
ص:  >  >>