دخلت الهزيمة على الطليان من أقطار الصحراء، فأمعنوا في الفرار لا يتلبثون ولا يستأنون. . . لا ينتظرون عند المساء صباحاً، ولا عند الصباح مساءً، كأنما يغزوهم الرعب، ويقتلهم الخوف، من قبل أن تدهمهم الجيوش، ومن قبل أن يحاط بهم
كلما طلع نهار أو غسق ليل، تتابع الصور الشاحبة لتلك الهزيمة النكراء، وفي أعقابها ألمح صوراً مشرقة لأبطال (طرابلس) ومن بينها صورة فريدة تتألق أمام عيني في هالة من الجلال والتهيب، تلك هي صورة البطل المسلم الشهيد (عمر المختار) ومن عجب أن تتلاحق الصورتان: صورة الهزيمة النكراء، وصورة الشجاعة البلقاء!
هذه صورة للأفئدة الهواء، وتلك صورة للأحلام الرزان، وللنفوس الوثابة مطمئنة راضية مرضية
تباركت يا الله!! تجلت آيتك الكبرى في هذا البطل المسلم الصحراوي، فقد أفرغت عليه إيماناً من فرعه إلى قدمه، فإذا هو وقد خرج صورة مجسدة للعقيدة الإسلامية، يضرب للناس أروع الأمثال: من همامة نفس وقوة بأس، لا يحدث نفسه بالأدباء، ولا يفسد مروءته بعرض زائل، ولا ينتفض رجولته بقبول الهضيمة والهوان
في شوال من عام ١٣٢٩هـ اندفعت القذائف (الطليانية) الغادرة، مصوبة إلى طرابلس وبرقة، فكانت مؤذنة بتوقد جذوة الإيمان في قلوب المجاهدين؛ ومن بينهم عمر المختار
ولم يكن لهم من العتاد ولا من الذخر ولا من الحشد ما اجتمع لأولئك الغادرين، ولكن كان لهم شأن واحد أغناهم عن كل أولئك الشئون. . . كان لهم أيمان، وكانت لهم عقيدة، ولم يكن لهم أهواء، ولا بهم نزوات. . . وحسبك هذا غناء أي غناء. . .! فلقد بقى عمر المختار يفل شوكة أعدائه، ويقلم أظفارهم، ويتخطفهم من حولهم، ويكسر سلطانهم، حتى كانت سنة خمسين وثلاثمائة وألف الهجرية!
اثنتان وعشرون سنة دأباً، وعمر لا تخضد شوكته، ولا تفل عزيمته، تتكسر الأحداث أمام يقينه وإيمانه