لم أعرف (عين شمس) قبل هذا اليوم؛ ولم يقدر لي أن تصافح عيناي هذه الجنبات الفساح، وتلك الأرض المنطلقة. وما أدري أين كان مني هذا الهدوء السمح، وهذه الطبيعة الضاحكة، وذاك الجمال المنثور هنا وهناك. . . لقد قنعت بنفسي فانطويت عليها، وزهدت في الناس فانصرفت عنهم، وقضيت في القاهرة سنوات فإذا أنا أعيش في هياكل الوحدة، ومعابد العزلة، وكهوف لانقطاع البعيد. . . وإذا أنا أحيا بهذه الأجواء التي أنشرها، وهذه الدُّنى التي أنثرها، وتلك الرؤى التي أهيم بها. . . وإذا أنا أنتزع قبس الحياة من أعماقي، وأمد زيته من دمي، وأعيش في عالمي الرحب، أطوف فيه، وأسكن إلى ظلاله الوارفات.
- ٢ -
وفي القطار إلى (عين شمس) كانت تمر بي كل هذه الضواحي الفينانة، القائمة على برزخ الحياة، المستلقية على قدمي الصحراء، السابحة في بحر النور. . . فأعجب كيف غبت عنها كل هذا الأمد الطويل، وهذا المدى المتباعد. ولكني أثيب إلى نفسي فأذكر أن لي قلباً وقفته على ملاعب الصبا، ومسارح الطفولة، وجنات الغوطة؛ وأن في أعماقي خلجات استأثر بها الحنين، واستبد بها الشوق؛ وأن في أضلعي روحاً تخفق للأسرة الناعمة والبيت النديِّ والوطن البعيد.
لشد ما ملكت عليَّ نفسي هذه الضاحية الضاحكة. . . لقد أحسست فيها الحياة، وشعرت معها بالانطلاق، وامتدت بي آفاق النظر هنا وهناك، لا تحدها عوائق، ولا تقف من دونها حواجز، ولا يمنع عنها النور جدران قائمة وأبنية متراصة.
- ٣ -
إن الصحراء النائمة على ذراع الأفق، الممتدة على صفحة الدنيا لتبعث ألواناً من الأحاسيس، وتثير أنغاماً من العواطف، وتبث المعاني الرائعة من السلام والهدوء. . . لا يملك معها الإنسان إلا أن يستجيب لها، ويتحد معها، ويفنى فيها.