للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بمناسبة انتصاف القرن العشرين:]

حياة العلم بين منهجين

للأستاذ حامد حفني داود الجرجاوي

كان أرسطو الفيلسوف اليوناني أول من انتزع العلوم من الفلسفة. وهو وإن لم يخرجها عن إطارها القديم فقد نزل بها من عالم المثل الذي لا يحس إلى عالم الواقع. وهكذا أخرج أرسطو العلوم من دائرة الوهمية عند أفلاطون إلى دائرة الواقع المحس. رأى أرسطو وأن كل علم يشبه مجموعة خاصة من الأفكار، يربط بين أجرائها وجوه شبه معينة. فهدته الأجزاء وأوجه الشبه وأوجه الاختلاف إلى ربط كل مجموعة في دائرة معينة فنشأت فكرة العلوم المختلفة التي أخذ يسلخها الواحدة تلو الأخرى من سديم الفلسفة الواسع وهيولا الأفكار. فلما تم له ذلك سمى هذه البديهيات التي اصطنعها في التفرقة بين علم وآخر (المنطق) أو المدخل إلى العلوم.

وقد ظل منطق أرسطو مقياس العلماء في العصور الوسطى يكشفون بفضله عن مكنون العلوم ويربطون بين الأفكار المتشابه. وهم في ذلك يصدقون ما صدقه المنطق ويكذبون ما كذبه.

ولم يحرم رجال الدين في هذه الآونة من اتخاذه في البرهنة على قضايا الدين والاستدلال على وحدانية الله ووجوه. وقالوا كل صنعة لا بد لها من صانع. أعظم وهو الله سبحانه وتعالى.

وفي أوائل القرن السابع عشر تبدل وجه الفلسفة مسفراً عن فلسفة حديثة حمل مشغلها فرنسيس بيكون المتوفى سنة (١٦٢٦م) وأتباعه. وقد كان بيكون أشدهم ثورة على فلسفة أرسطو، فالفكرة في نظر بيكون أيا كان نوعها لا تصدق إلا إذا برهنت له عليها واقتنع بصحتها. وجعل (التجربة) شرطا في التصديق

وهكذا ضيق بيكون مجرى العلم بعد أن كان واسعاً لأن الكون مليء بالأفكار التي لم تخضع للتجربة، ويتعسر إجراء التجربة على أكبرها. وسرعان ما اصطدم المذهب التجريبي الذي استنه بيكون بالأفكار. وهي أفكار نقلية عقيدية لا يجيز رجال الدين البحث فيها. كما أنها لا تجرب كما تجرب المواد الخام في المعمل. وكانت صدمة عنيفة صدم بها

<<  <  ج:
ص:  >  >>