لا أقصد به الوحي الذي ينزله الله وتعالى على المختارين من عباده، أو المصطفين من خلائقه، فإن ذلك الوحي بعيد عن أن تدرك العقول من ماهيته شيئاً، بل أعتقد أن جل ما تدرك منه إنما يتعلق بأعراضه وظواهره دون حقيقته وجوهره.
ولا أقصد به الوحي الذي يقول به الروحانيون، أولئك الذين يحاولون إثبات العلاقات بين الجواهر اللطيفة الروحانية، وبين المواد الغليظة الجسمانية، حتى بعد أن تفارق الأرواح الأبدان، وتنفصم تلك العروة التي تربط بين المبدأ العلوي الحال في الأجسام السفلية.
ولا أقصد به ذلك الوحي الذي حاول أوائلنا من السلف الصالح عليهم رحمة الله أن يثبتوا إن له بالأحلام وأضغاث الأحلام صلة ورابطة؛ ولا الوحي الذي يقول به بعض المحدثين من أنصار العلامة فرويد، أولئك الذين قلبوا آية الأحلام فجعلوا عالم الشهادة سبباً في الرؤى، بعد أن كانت الرؤى عند الأقدمين نذيراً بما سوف يقع في عالم الشهادة.
لا أقصد شيئاً من هذا ولا من غيره من الأشياء التي تجعل بين ما بعد الطبيعة والطبيعة رابطة، قد يدركها التصور، وقد ينفيها الإدراك الحسي، وإنما أقصد الوحي المادي، وحي المعرفة تلك التي تشعر ونعتقد أن لها بكياننا المادي علاقة السبب والمسبب، ورابطة العلة والمعلول. ذلك بأني أعتقد أن بعض العقول الممتازة، ولا أعلم كيف هي ممتازة، قد خصت بكفايات الوحي، مستمداً من المعرفة التي تستوعبها. وكذلك أعتقد أن لبعض العقول ميولاً أشبه بميولنا النفسية، وأن لبعضها دون بعض رباطاً بناحية معينة من نواحي المعرفة. فلبعضها رابطة بالعلم، ولبعضها رابطة بالأدب والفلسفة، ولبعضها رابطة بالفن، ولبعضها رابطة بالدين. تلك صدور من المعرفة، أو بالأحرى أشكال من المعرفة، لكل منها حدودها التي يعينها العقل تعييناً قد يبلغ بعض الأحيان مبلغ اليقين، وقد ينزل بعض الأحيان منزلة الشك؛ ولكنها على قدر ما نعلم من اختصاص العقول بالتبريز في ناحية من نواحيها لها حدودها المتفق عليها عند من يعنون بوضع الحدود والفروق بين كفايات العقل الإنساني.
أما وقد نعلم من طريق اختصاص العقول بالتبريز في نواح معينة من المعرفة أن لصور المعرفة من علم وأدب وفلسفة وفن ودين حدوداً معينة وتخوماً مقررة في شريعة العقل، فما