نشك بجانب هذا في أن لكل عقل من العقول اختصاصاً في ناحية من نواحي المعرفة. نضيف إلى ذلك ظاهرة أخرى؛ هي أن لبعض العقول فوق اختصاصها في التبريز في ناحية معينة من نواحي المعرفة، قد خلقت وفيها موهبة خاصة تجعلها أكثر من غيرها استعداداً لتلقي نوع من أنواع الوحي، تظهر آثاره باستيعاب قدر خاص من المعلومات قلّ أم كثر، وهذه الآثار التي تتجلى في إدراك بعض العقول لحقائق أو نظريات، قد تظهر عند درسها أنها قد لا تكون نتاجاً لدرس عميق، ولا لأكباب على التفكير، ولا تعمل أو تمحل في إدراك حقائق الأشياء؛ بل غالباً ما تكون أشبه بالومضة السارية في الظلام أو الشعاع المنير يفلق بنوره غياهب الشك ويقضي على الجهالات.
أي سر هذا؟ عقول تدرك بالومض كأنها اللوح الحساس وعقول تعجز عن إدراك ما تدرك تلك! عقول تنفذ إلى صميم الأشياء بلمحة سانحة، فتستخلص الحقائق الأولية وتنتزعها من تلك الأضغاث التي تراكمت حولها من فتنة الفكر وتحف الخيال، وأخرى تستوعب ما تستوعب من مبادئ العلم وصور الأدب ونظريات الفلسفة وتأريخ الفن وشرائع الدين، وتظل في جمودها تنظر إلى تلك الومضات التي تفيض بها الأولى مأخوذة بأن ما أدركت الأولى قريب مما استوعبت، ولكنه بعيد عن أحلامها قصي عن إدراكها!
يصعب على العلم أن يعلل هذا تعليلاً يصل به إلى حقيقة الأمر منه. بل ولا شك في أن الخيال والتصور يقفان أمام هذه الظاهرة وقفة العلم من حيث العجز عن إدراك السر فيه. وليس لنا أن نستوحي العلم أو نذهب مع الخيال نعلل حقيقة هذه الظاهرة. وإنما نريد أن نحصر بحثنا في بعض الظواهر التي ترجع إلى ما ندعوه وحي المعرفة.
إذا مثلت لتأريخ الفكر البشري بشريط طويل من اللون الأسود، وأردت أن تضع على مسافات معينة من هذا الشريط دوائر بيضاء، تمثل بها لتلك الومضات الوحيية التي جادت بها عقول ممتازة، وكان لها الأثر الدافع إلى غايات طلبها الإنسان وضرب في سبيل الوصول إليها، لرأيت أن الفراغات السود بين الدوائر البيض قد تطول حدودها حتى يخيل إليك أن الإنسانية منذ أبعد عصورها لم تستهد بغير عدد قليل من العقول التي وهبتها الطبيعة تلك الهبة السامية، هبة الوحي تستنزله المعرفة. ولا شك في أنك تقف عند فكرة التوحيد في عقل إخناتون، وفكرة الإنسان الكامل في عقل سقراط، وفكرة المنطق عند