للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أرسطو طاليس، وفكرة دوران الأرض والسببية الطبيعة في عقل غليليو، وفكرة الأسلوب والشك في عقل ديكارت، وفكرة المثاليات في عقل اسبينوزا و (كانت)، وفكرة التطور في عقل دورين.

قد نجعل لمثل هذه العقول منزلة وحدها ونرفعها إلى مكانة من الفضل مفردة. فإذا نزلنا عن هذه الدرجة أمكننا أن نسرد من العقول الممتازة عدداً إن خص بهذه الموهبة فإن اختصاصها بالفن يرفعها إلى درجة الأولى، بل تلوح لنا كأنها التابع حيال المتبوع، أو الصورة الواضحة في المرآة الصافية. ثم تنزل من هذه درجة ثم إلى أخرى، حتى نبلغ حداً لا نميز فيه بين العقول، وحيث نأنس أن العلم بالأشياء وحفظ المتون ظهر الغيب ليس له من أثر في الابتكار، كأنما تلك العقول ليست أكثر من نسخة مكررة في كتاب واحد.

أكثر أولئك الذين نسميهم علماء أو ننعتهم أدباء أو مفكرون، هم من طبقة الذين نطلق عليهم طبقة (النسخة المكررة من الكتاب الواحد). يعيشون في حدود ما قرءوا؛ وقد يجيدون حفظ الكتاب إجادة تبلغ الكمال، ويفكرون على الأسلوب الذي رسمه الكتاب، بل قلما يجيدون التفكير على ذلك الأسلوب فيفسدون ما قرءوا في الكتاب وينزلون به درجة بعد درجة حتى تمسخ عقولهم ما قرءوا وما حفظوا، فيصبحون بذلك نسخة مبدلة من كتاب قرءوه، أو فرض عليهم أن يقرءوه ليؤدوا بقراءته غرضاً لا يعترف به العلم، ولا هو من شريعة الفهم في شئ.

قد يكون السبب في ذلك راجعاً إلى أن عقول هؤلاء قد صرفت مقسورة عن تنمية الموهبة التي أعدتها الطبيعة فيها؛ وقد يكون للنشأة في ذلك أثرها وللبيئة طابعها الثابت؛ وقد يكون لنظرة ما ينظر من ناحيتها في الحياة أثر في العقل ينتج ذلك الجمود العلمي والتحجر العقلي؛ قد يكون للخلق وللشهوات عوامل خفية تؤثر في اتجاه العقول.

قد يكون ذلك وقد يكون أكثر منه. والحق أن من يفكر في مثل هذا الأمر يشعر بالعجز عن بلوغ الغاية في تعليله تعليلاً علمياً يقبله العقل، ولكن لنا أن نقول إن للوارثات المختلفة وحالات الحياة الأثر الأول في حدوث هذه الظواهر العجيبة.

على أننا إلى جانب هذا لا نستطيع أن ننكر أن هذه الملكة، ملكة الوصول إلى غايات من العلم والأدب والفن تكاد تظهر كأنها الوحي، هي من الملكات التي يمكن أن تنميها التربية،

<<  <  ج:
ص:  >  >>