لقد أطبق شفتيه ولم يرد - بعد أن قضى الأيام الطوال ينشد أهل أثينا شعره الرائع العذب - أن يظل مثابراً على ما بدأ به، فألقى نفسه في داره والتزم حياة العزلة، وانقطع ذلك الصوت الذي كان يغذي جميع سكان أثينا، وسكنت تلك العواطف الثائرة وخليق بها ألا تسكن، وتشرق بأنوار الجمال لكل من يريد الجمال
فدخل عليه هوبول وكان من أصدقائه الملازمين، فوجده مستلقياً على فراشه النابي، وصاح به هوبول وقتئذ:
يا قيثارة الأرض! ويا عندليب السماء. هل حبست صوتك انتقاماً منا نحن أهل الأرض الذين أصمت آذاننا كلمات الحسد، وأعمت عيوننا ترهات النعيم، وشغلت عقولنا سفاسف الملذات، فلم يبقى منا إلا هذه الأجسام المركبة من عظم الكبر ولحم الفرائس، ودم نجس كالخمر المسكوبة في مجلس الدعارة.
فقام هايكلوس من مكانه وحمل جسمه المنهوك وحاول إخراج جملة قصيرة من صدره المتهدم قال: إني لا أزال أرى في نومي ويقظتي ملائكة أبولو تحاسب أهل أثينا عما حفظته من أشعار هوميروس، وعما تعي من كلم زيوفراست، وهيراقليط، وسقراط، فلا تجد غيرك يا هوبول، وتصرخ في أعلى السماوات بصوت موحش مهول لقد نسى أولئك الطاغون أشعار اليونان وكلمها، وتركوا عبادة آلهتها، فدعهم يا هايكلوس في ظلمات الجهل يعمهون.
دعهم فقد عبدوا البطون والقدود، وأضحوا قوقعات نجسة تدنس الأرض بسائلها اللزج، ما أشدهم طغياناً وفجراً، إنهم نسوك يا هايكلوس فثابر على صومك ولا تعد تنشدهم شيئاً، وإن الثلاثين يوماً التي انصرمت على انقطاعك لا تكفي، بل ثابر على صمتك فهؤلاء قوم قد نسوا ماضيهم وحاضرهم، وعليك أن ترحم نفسك. لأني أرى أن كل كلمة من أشعارك الباهرة قد سلبت خلية من جسمك الغض.
إني يا هوبول رأيت الملائكة تخاطبني غضبى: (سنترك المدينة طمعاً للشياطين،