كثيراً ما هممت أن اكتب في أمر من أمور التعليم إلى الرسالة الغراء، عالماً أن صدرها الرحب يتسع لذلك البحث لما فيه من مساس بناحية حيوية من نشاطنا، غير أني كنت كلما هممت بذلك قعدت بي معان صدتني عن عزيمتي. فأنني معلم بي ما بصاحب الفن من حب لفنه وانصراف بقلبه إليه. غير أن التعليم مرتزقي، وسبيل الأرزاق غير حبيب، فما يكاد الرجل ينصرف من مضطرب عيشه حتى يود أن يتناسى ما اعتراه في ذلك المضطرب، فتراه يقبل على كل حديث غير حديث فنه، ويحب الخوض فيما يبعد به عن ذكر صناعته. ومع ذلك قد رأيتني أقرأ كتاباً أهداه إلي صديق كريم قد ترجمه عن الإنجليزية إلى العربية، وهو الأستاذ محمد أحمد الغمراوي، فبدأت قراءته لأنه كتاب صديق، ثم رأيتني أسير في قراءته مقبلاً عليه لما فيه، واضمحلت صورة الصديق شيئاً فشيئاً من ثنايا السطور حتى صرت بعد لا أجدها، وصرت أعاود الكتاب لنفسه، وأطلب صحبته وحديثه لما أجده فيه من فائدة ولذة ونشاط.
ذلك الكتاب سفر قيم. أقل ما أصفه به للشبان أن قراءته ضرورة لازمة لهم إذا شاءوا أن يخرجوا من دراستهم على أكبر قسط من الفائدة من وراء جهدهم وعملهم. وإذا كنت أخاطب الشبان بذلك فأني أفعل ذلك لعلمي بأنهم أحوج الناس إلى قراءة مثله، ولكن ليس معنى هذا أن من هم من طبقة أعلى من الشبان سناً قد بعدوا عن أن يجدوا في قراءته فائدة، أو استغنوا عن أن ينتفعوا بما فيه من بحوث طريفة فأني أقول غير مجامل ولا مبالغ أنني قد خرجت من قراءة ذلك الكتاب وقد علمت كثيراً مما كنت أجهل، واستوضحت كثيراً مما كان غامضاً مبهماً عندي، وغيرت كثيراً مما كنت متجهاً إليه، قانعاً به. وفضل ذلك الكتاب لمن يقرؤه من الكبار أنه يوحي إليهم معاني جديدة بما يأتي به، مما قد يكون معلوماً