شغف الخلفاء العباسيون بالتجسس ومالوا إليه. وقد كان لابد لهم من تسقط الأخبار والفحول بها لئلا ينسبوا إلى الضعف والغفلة أو يتجرأ عليهم الأعداء والأخصام. فإن من أخلاق الملك اليقظ السعيد على قول الجاحظ: البحث عن سرائر خاصته وعامته، وإذكاء العيون عليهم، والبحث عن كل خفي دفين.
وبغداد، وما كان فيها من أخلاط المخلوقات وأنماط الناس، وما انتشر فيها من أراء سياسية وعصبية، وما ظهر فيها من ميول شعوبية وعلوية وهاشمية كل هذا دفع الخلفاء إلى التجسس ولم الأخبار ليحفظوا ملكهم ويكونوا على بينة مما يجري.
وقد ذكروا أن الرسول عليه السلام، كان، كان ليقظته يرسل الجواسيس والعيون يتحسسون أخبار أعدائه المشركين. ولم يكن عصر النبي عليه الصلوات، كالعصر العباسي، ولا كان المجتمع إذ ذاك، كالمجتمع يومئذ. فليس من الغريب أن يشغف العباسيون بالتجسس، فهو ضرورة من ضرورات الملك.
كان التجسس يجري على طريقتين: ظاهرة وخفية. أما التجسس علانية فكان يقوم به أصحاب الأخبار والبريد. وكانوا منتشرين في كل مكان، وكان عليهم أن يعرفوا حال عمال الخراج والضياع، وأن يتتبعوا ذلك تتبعاً شافياً، ويستشفوه استشفافاً بليغاً، وأن ينهوه على حقه وصدقه. وأن يعرفوا حال عمارة البلاد، وما هي عليه من الكمال والاختلال، وما يجري في أمور الرعية فيما يعاملون به من الإنصاف والجور، والرفق والعسف، فيكتبوا به مشروحاً. وأن يعرفوا ما عليه الحكام في حكمهم وسيرهم وسائر مذاهبهم وطرائقهم، وأن يعرفوا حال دار الضرب وما يضرب فيها من العين والورق، وما يلزمه الموردون من الكلف والمؤن. وفي كل ما ينهونه. ينبغي أن يكونوا صادقين واثقين مما ينهون. فإذا ورد كل ذلك على الحضرة سلم إلى صاحب ديوان الإنشاء ليحمله إلى حيث يطلع عليه الخليفة