للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الذوق العام]

للأستاذ أحمد أمين

يظهر لي أن للأمة ذوقا عاما كما أن لها رأيا عاما وعرفا عاما لكل دائرة اختصاص لا يتعداها. فالرأي العام مداره الآراء والأفكار والمعقولات، والعرف العام، مداره العادات أما الذوق العام فمداره الفن والجمال.

وكما أن هناك قدرا مشترك بين المصريين مثلا في لونهم وتقاطيع وجوههم، وملامحهم، فنستطيع في سهولة ويسر أن نميز المصري من الأجنبي حتى في البلاد الأجنبية، وكما أن هناك قدرا مشتركا في الرأي العام المصري في النواحي السياسية والاجتماعية يميزه من غيره من الرأي العام الأوربي، فكذلك الشأن في الذوق العام.

يتجلى هذا في كل أنواع الفنون كالطعوم، فلكل أمة أنواع من الطعوم تستلذها وتغرم بها، هي نتيجة ذوقها، ومن أجل هذا كان طهي كل أمة يخالف طهي الأمة الأخرى، ولا يقتصر هذا على نوع المأكول بل يتعداه إلى كيفية أعداده، وبذا نستطيع أن نحكم على الأمة بأنها تستجيد كذا من ألوان الطعام وأنواعه، على حين أن الأمة الأخرى لا تستسيغه ولا تتذوقه.

ومثل الطعوم غيرها من الفنون، فالذوق العام المصري يقدر الموسيقى المصرية أكثر مما يقدر الموسيقى الغربية، بل لا يستلذها ولا يرى فيها جمالا، كما أن أكثر الغربيين لا يجد في الموسيقى الشرقية طعما، ولا يقيم لها وزنا.

وكذلك أشكال البناء وما يستجاد منها وما لا يستجاد وأنواع الملابس وألوانها وما يستجمل منها وما يستهجن: كلها خاضعة للذوق العام في الأمة. ولكل أمة في هذه الشؤون ذوقها يميزها من غيرها ويضعها في درجة خاصة من سلم الرقي. وهذا الذوق العام في كل أمة هو الذي يقومّ الأدب ويتذوقه، وهو الذي يجعل لكل أمة أدبا خاصا، فالأدب المصري مثله مثل الطعوم المصرية، والغناء المصري والبناء المصري إنما يتذوقه المصريون بذوقهم الهام ولا يتذوقه الغربيون بذوقهم العام، كما لا يتذوقون طعومنا وغناءنا، فالنوادر المصرية التي تعجب المصري حتى تبعثه على أشد الضحك وأعمقه قد لا تحمل الأجنبي على التبسم، والقصص و (الحواديت) المصرية التي تسترق لب المصري وتستهويه، قد لا يأبه لها الأوربي ولا يعيرها التفاتا إذا ترجمت له، نعم قد يعجب المصري بآيات من الآداب

<<  <  ج:
ص:  >  >>