كان الناس في أبريل من عام ٥٧١، والطبيعة المشفوفة تنتظر انبثاق الروح المبدع، وانبعاث الربيع الممرع، وانتعاش الحياة الجديدة في الأرض الهامدة؛ والخليقة المئوفة ترسل النظر الحائر في الآفاق الغائمة، ترتقب لمعة النور من الشرق، ونفحة القوة من الحق، وكلمة الهدى من الله؛ والجزيرة المجهودة تصهرها الشدائد، وتطهرها الدماء، وتهيئها الأقدار ليهبط فوقها الوحي، ويتجلى لها الخالق، وتتصل عندها السماوات بالأرض؛ والهواتف الطائفة تعلن في رؤوس الجبال، وسفوح الأودية، ومدارج السبٌل، وسوابيط المعابد، وأواوين القصور، بشرى الرسالة الأخيرة، وظهور الرسول المنتظر؛ والشياطين الآلهة تئن في أجواف الأصنام المنكسة أنين الخيبة والهيبة واليأس؛ وأجنحة الأملاك تخفق من وراء البصر في جو مكة القائض المغبر، فتنفض عليه النور والسرور والدعة؛ وأرواح الأنبياء من حول الكعبة تضوع بالحمد والدعاء احتفالاً بختام النبوة، وقيام الدعوة مرة أخرىفي بيت إبراهيم؛ وومضات من روح القدس وأشعة الخلد تنعقد هالات مشرقات على (شعب بني هاشم) وفوق دار آمنة؛ والنبي الوليد الذي خنس لمولده الشيطان، واعتدل بمقدمه الزمان، وخشع لذكره الكاهن والموبذان، وتصدّع من خشيته الدست والإِيوان، يفتح عينيه للوجود في بيت العُدم، ويلقى ارواقه الكريمة على نهاد اليتم، ولا يظفر بمرضع إلا لأنها لم تظفر آخر الأمر بغيره!!
تبارك الله ما أبلغ حكمة وأجل شأنه! شاء لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقراّنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع في العقول، وكلمته أنْوط بالأفئدة؛ ولو اتخذ رسله من الملوك العواهل لاٌّتهمت المعجزة، والتبس على الناس فعل القدرة.
كان محمد بن عبد الله مثَل الله الأعلى للإنسان الكامل.
صوره خلقاً سويّاً ليرسم الأخلاق بالمثل، ويعلم الدين بالعمل، وينظم الحياة بالقدوة. وإلا فكيف اجتمع فيه ما تفرق في جميع الناس من خصال الرجولة، وخلال البطولة، وخلائق النبل، وبيئته لا تملك من بعض ذلك ما تعطيه؟
رعى على بعض أهله، وسعى لبعض قومه، واتجر بمال زوجه، فكان في جليل الأمر كما كان في ضئيلة صادق العزم، كريم العهد، وثيق الذمة، راجح الحلم، شاهد اللب، لين