للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العِطف، حلو المعاشرة (يحمل الكَلَّ، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق)

ثم اصطنعه الله لحقِّه، وحَّمله الرسالة إلى خلقه، فكان في غار حراء، وفي دار الأرقم، وفي جبل ثور وفي دار أبى أيوب، وفي المسجد الجامع ثم في الرفيق الأعلى، مظهرا صحيحا لروح الله، وإعلانا صريحا لسر الدين، ومثالا عاليا لصدق الجهاد، واحتمالا ساميا لمكاره الدعوة، وأسوة حسنة لجميع الناس!

جهر الرسول بالدعوة بعد أن خافت بها في قريش ثلاث سنين، فضلل الأقوام وسفه الأحلام وهاجم الشرك في معقله، وليس وراء ظهره إلا عمه! فتألبت عليه عناصر الشر جمعاء فما أفكتْه عن عزمه، ولا خلجته عن همه. ثم تجلت فيه الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثَّر باللسان، وقهر باليد، وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل، فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة، فكان رسولاً في الدين، وعلَماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب.

إن حياة الرسول قانون إلهي خالد لصاحب الدين وصاحب الدنيا، وان وسائل الجهاد التي جدد بها أسلوب العيش وأقام بها ميزان المجتمع لا تزال عناوين ضخمة في صفحات العلم والسياسة والخلق، وان من أساس الإسلام أن نطيع الله في كتابه، ونطيع الرسول في سننه وآدابه، فليت شعري أكان في حدود الإمكان أن يرتطم العرب والمسلمون في مراغة الخمول، فيرضون بالهُون، ويقنعون بالدون، ويتخلون عن مكانهم من صدر الوجود، لو أنهم اتخذوا من أحكام ربهم منهاجا، ومن كلام رسولهم علاجا، ومن حياة السابقين الأولين من رجالهم قوة وقدوة؟؟

أليس من خذلان الله لنشئنا الجُدُد أن يلوكوا جاهدين أسماء فلان وفلان ممن رأى رأيا أو أنشأ قصيدة أو ألف كتابا، ثم يتركوا عامدين اسم محمد الذي جمع العرب من شتات، وأيقظ العالم من سبات، أقام للسماء دينا في الأرض، وأسس للأرض دنيا في السماء؟

احمد حسن الزيات

<<  <  ج:
ص:  >  >>