للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[بعد مؤتمر الامتيازات]

الآن يبدأ الاستقلال!

كان يوم السبت أول أمس آخر أيام المؤتمر، فغابت في أقصى الحلوق الألسنةُ التي كانت تجادل وتقاتل للمنفعة، وانبسطت من القلوب ألسنة معسولة كانت تجامل وتدامل للعاطفة. وجدوى المدنية على الإنسان، أنها خلقت له لسانا مع اللسان، إذا جرح هذا، لعق دم جرحه ذاك. وجملة القول في المؤتمر أنه ألغى الامتيازات إلا ذيلا سينسحب في ردهات المحاكم المختلطة اثني عشر عاماً ثم ينقطع. ومصر التي كابدت رهق هذا النظام المهين في الأعمال والأموال والأنفس، تدرك أن هذا الاتفاق المدني مع الدول الممتازة، أبلغ شانا وأبعد مدى من ذلك الاتفاق العسكري مع الدولة المحتلة؛ فإن الاحتلال الإنجليزي كان محصوراً في ثكنتين وقلعة، يطل من نوافذها الضيقة إطلال المتقحم الغاصب، فلا يرى إلا النظر الشزر، ولا يسمع غير الهتاف العدو؛ وكان وجوده الباطل تحدياً لرجولة الشعب فتيقظت فيه عواطف الوطنية والقومية والحرية، فدافع بمواهبه حتى نضجت فيه الكفاية، وضحى بدمائه حتى نبغت فيه البطولة. وأما الاحتلال الدولي فقد كان معتمداً على اتفاقات موروثة ومساومات مكتوبة وامتيازات مكتسبة، فتدخل في كل عمل، وتغلغل في كل مكان. وأخذ على الأهلين سبل العيش وموارد الرزق فتعطلت في نفوسهم الملكات المنشئة، وسكنت في رءوسهم النوازي الحافزة، ورضوا من بلادهم بالنصيب الأخس ضراعة وذلة؛ وكان نظام الامتيازات الذي استتبع هذا التفاوت في نظام الحياة، إيحاء ملحاً بأننا دون الأجنبي في القوة والقدرة والخلق، فخضعنا خضوع التابع، وقنعنا قنوع المحروم، وتأخرنا في ميدان الاقتصاد بقدر ما تقدمنا في ميدان السياسة. فإذا أنقذ الوفد بهذا الاتفاق كرامتنا من الذل، وسيادتنا من العجز، وثروتنا من الغبن، واستقلالنا من النقص، كنا أحرياء بأن نفخر بسمائنا التي لا تعبس، وبأرضنا التي لا تيبس، وبنيلنا الذي لا يُحلف

الآن يبدأ الاستقلال؛ لأن الاستقلال الصحيح أن تقول صادقاً في وطنك: أنا السيد؛ وفي محكمتك: أنا القاضي؛ وفي أرضك: أنا المستغل؛ وفي مالك: أنا المتصرف. على أن (بَدَأَ) ليس معناها (تم)؛ وتسجيل الاستقلال عمل من أعمال الحكومة، ولكن تثبيته عبء من أعباء الشعب؛ وإذا كان المدافع عن جهته السياسية جنود الدولة، فإن المدافع عن جهاته

<<  <  ج:
ص:  >  >>