للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[دراسات تحليلية:]

الجنيد

للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ

في حاضرة الخلافة العباسية مدينة العلم والنور وبين مجالس الزهد والتقوى ومراتع اللهو والمجون، ولد العالم الأديب المحدث الفقيه الصوفي المتنسك أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري، ودرج في بيت أبيه لا يرى فيه من مظاهر النعمة والثراء شيئا مذكورا، ولا تسمع أذناه سوى ارتطام القوارير التي كان أبوه يبيعها. ولما بلغ مبلغ الصبيان صار يذهب إلى دكان أبيه، فكانت كثيرا ما تقع عيناه على موكب من مواكب الخليفة يسير في شوارع بغداد خارجا لصيد أو ذاهبا إلى مسجد لأداء الصلاة تحف به مظاهر الأبهة والملك وتحيط به حاشية من وزراء وقراء وجنود وسحاب، فكانت تستهويه هذه المواكب، وتسحره هذه المظاهر، ويتمنى - شأن كل من في مثل سنه - أن يكون كأحد هؤلاء الذين يحيطون بالخليفة ويحفون به. أو يمر على حانة من حانات القصف واللهو تختلط فيها رنة الكأس بأصوات المغنيات، وتتعالى فيها صيحات الاستحسان من قوم سلبتهم بنت الحان عقولهم، فيقف ينصت لما يقولون ويسمع ما به يترنمون، فيود لو جلس بينهم وشاركهم لهوهم وفرحهم، فإذا آب إلى بيت أبيه في أحد أزقة بغداد هالة الفرق البعيد وأخرجته مرارة الحقيقة التي تتجلى له والتي هو رازح تحت كلها، من تصوراته البديعة وتخيلاته العريضة التي كان سابحا في ملكوتها، إلى واقع حياته وحياة من يحيطون به.

ولما صار فتى ألحقه والده بحانوت خزاز ليتعلم صنعة تكون له غناء في حياته ووقاية له من الفاقة، وكان كثيرا ما يسمع عن أسماء بعض الفقهاء والعلماء، وأقوالهم ومجالسهم وما حباهم الله به من نور وعرفان، فتاقت نفسه إلى مشاهدة مجالسهم وسماع أقوالهم. وذات مساء ذهب إلى إحدى الحلقات التي يؤمها كثير من طلاب العلم، وهناك جلس في ركن من زمانها قانتا خاشعا في وقار وتهيب وخشية وخوف، يسمع ما يقال ولا ينبس ببنت شفة، وسخره القول وأعجبه الحديث، فصار يتردد على هذا المجلس حتى تفتحت بصيرته وانشرح قلبه لنور به، وبدأ يفهم ما يقال ويتأمل ما يسمع.

ثم سمع بإبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فورد عليه

<<  <  ج:
ص:  >  >>