للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأنصت لما يقول فجذبه قوله واستأثر به حديثه فلزم مجلسه. واسترعت مواظبة الجنيد وحضوره مبكرا نظر الكلبي فقر به إليه وأدناه من مجلسه، وأعظم فيه مظاهر الورع والتقى على صغر سنه، ورأى علائم النجابة بادية عليه، فاتخذه تلميذا له يرعاه ويحدو بعنايته. ولم يقتصر الجنيد على الفقه بل أخذ من كل علم بطرف، فكان في الأخلاق تلميذ معروف الكرخي، وفي التوحيد تلميذ الحارث المحاسبي. . .

وصار الجنيد قبلة الأنظار وهو في سن العشرين. وفي أحد الأيام قال له خاله السري السقطي وكان من أساتذته، تكلم على الناس وعظهم حتى تفيد وتستفيد، ولتعظ نفسك قبل أن تعظ الناس، فامتنع عن ذلك لأنه كان يرى نفسه ليس أهلا لذلك، فراى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ليلة الجمعة، فقال له النبي عليه السلام: تكلم على الناس. قال فانتبهت من نومي وأتيت باب السري قبل أن ينبلج الصبح، فلما دققت الباب قال لي: لم تصادفنا حتى قيل لك. قال: فقعدت في هذا اليوم للناس بالجامع. ثم صار له أتباع ومريدون وأصبح أوحد أهل عصره. فقد كان يفتي في المسألة الواحدة وجوها لم تخطر على بال العلماء. سأله أحد الفقهاء عن مسألة فأجابه فيها بأجوبة لم تخطر له، فقال يا أبا القاسم لم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها علي، فأعادها بجوابات أخرى، فقال والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده على، فأعادها بجوابات أخرى، فقال لم أسمع بمثل هذا فأمله علي حتى أكتبه. فقال الجنيد: لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي أن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني؛ وإنما هذا من فضل ربي يلهيه ويجريه على لساني. وسمعه بعض المعتزلة فقال: رأيت في بغداد شيخا يقال له الجنيد ما رأت عيني مثله. كان الكتبة يحضرون لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم.

وبينما هو يسير في الليل في درب من دروب بغداد سمع غناء في دار فعاد به الحنين إلى عهد الطفولة فأنصت، فإذا الجارية تقول:

إذا قلت هذا أهدى الهجر لي حلل البلى ... تقولين: لولا الهجر لم يطب الحب

وإن قلت هذا القلب أحرقه الجوى ... تقولين: نيران الهوى شرف القلب

وإن قلت ما أذنبت قلت مجيبة ... حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

<<  <  ج:
ص:  >  >>