للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من أحاديث الإذاعة:]

تسعة قروش!

للأستاذ علي الطنطاوي

من أسبوعين ابتليت من أولادي ببلية، هي أني كلما دخلت الدار، تعلقوا بي طالبين تمثال العبد الأسود ذي الطربوش الأحمر وأنا لا أدري ما هذا التمثال، ولا أعرف من أين آتيهم به، وهم يلحون لا يشغلهم عنه شئ من غالي اللعب، ونادر الطرف، حتى كرّهوا إليّ البقاء في البيت. . .

وكنت مرة خارجاً إلى عملي مستعجلاً، فوجدت بياعاً يحمل هذه التماثيل، ينادي (الواحد بقرش) ففرحت به فرح الضال في البادية يرى معالم الطريق، واشتريت تمثالين وحملتهما معتزاً بهما كأني أحمل كنزاً وعدت بهما حتى إذا دنوت من الدار وجدت ولدين صغيرين قاعدين في ظل جدار، فلما أبصرا التمثالين برقت عيناهما، ودنا رأساهما في همس، وارتفعت يداهما في إشارة خفية متهيبة، وشخص بصراهما كما يفعل شابان غريران طلعت عليهما من الطريق فتاة فتانة. . وقاما فتبعاني وعيونهما معلقة بالتماثيل، فلما رأيت ذلك منهما فكرت أن أدفعها إليهما. ولكني خشيت أن أرجع فلا أرى البائع، وتخيلت رغبة أولادي فيها، فلم تطب نفسي أن أحرمهم هذه المتعة، ولم أستطع الإعراض عن الولدين الفقيرين فدعوتهما فدفعت إليهما قرشين، وقلت لهما

- هو ذا البائع، فالحقاه فاشتريا مثلهما، الواحد بقرش!

فأخذا القرشين وعهدي بمثلهما أن القرش الصاغ ثروة له. لا يناله إلا بشق النفس، فما حفلا بهما ولا هشا لهما، ولبثا شاخصين في التمثالين كأنهما لم يريا القرشين، ولم يسمعا الكلام أو كأن عقلهما فارقهما فاستقرا على ما في يدي، فلم يفهما كلامي وحاولت نسيانهما، وسرت فتبعاني كأنهما كلبان وكنت أحس بحرّ نظراتهما على ظهري، وبثقلها على روحي فأهم أن أمد يدي باللعب إليهما ثم تدركني محبة الولد فأكف، حتى وصلت الدار وصورتهما أمام عيني، تمنع عن عيني رؤية فرحة أولادي باللعب وغوايتهم إليها. . .

ولما خرجت وجدت الولدين لا يزالان في الطريق، يفتشان عن البائع، يعدوان هنا وهناك، كأم أضاعت طفلها ولا تدري أية سبيل سلك. فدعوتهما - فأقرخت روعهما - وسألتهما عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>