اسميهما فمشيا معي فما درت مع الطريق دورة حتى لقيت البياع أمامي، فشريت لهما تمثالين وتركت لهما القرشين، ووجدت حول البياع أولاداً مثلهما، فقلت له:
- أعط كل ولد تمثالاً
وكانوا تسعة فدفعت إليه تسعة قروش
هل تصدقون أو أحلف لكم، أني لما نظرت في وجوه الأولاد وقد بدا فيها بهاء الفرح، وما عرفتْ هذه الوجوه الفرح قط، ولاحت عليها سمات الطفولة الراضية الشاكرة، وما كان يلوح عليها إلا الألم والحقد المرير وأشرق عليها نور إلهي سطع من وراء ما حملت من الأوساخ والأقذار، ولما رأيت عيون الأمهات الواقفات تدمع، وألسنة الرجال الواقفين تدعو، أحسست في قلبي فرحة لا تعدلها فرحة الجائع بالمائدة الملوكية المترعة، ولا الضجِر بالقصة العبقرية الممتعة، ولا المحب المدنف بلقاء الحبيب بعد طول الهجران. . .
لا والله فتلك أفراح أرضية، وهذه فرحة سماوية، قد تعيش آلاف البشر وتموت، ولا تحس مثلها. وشعرت كأني كبرت في عين نفسي، وأني سموت وأني صرت أقوى وأقدر، وأني نلت الأماني ومتعت بالخلود.
إننا ننفق أكثر الأموال، نشتري أيسر المتع، وهذي متعة ما كاد يجد الإنسان مثلها، نلتها بتسعة قروش، وما تسعة قروش بالنسبة لي؟ إنها شئ كالعدم؛ شئ لا يغنيني وجوده، ولا يفقرني فقده، فهل تحبون أن تشتروا مثل هذه المتعة؟ هل تحبون أن تعرفوا ما هي لذة الروح، وما هي راحة القلب؟ هل تريدون أن تذوقوا نعيم الجنة وأنتم في الدنيا؟
ولا تحسبوا أني أصف كلاماً. وأرصف ألفاظاً، إني والله أسوق لكم حقائق، فإن أردتم معرفتها، ففتشوا حولكم عن هذه الطفولة المحرومة وهذه النفوس المعذبة، ثم أولوها الإحسان
وليست قيمة الإحسان بكثرة المال، إن المال ينفع الفقير ولكنه لا ينزع من قلبه النقمة على الحياة، ولا يستل منها بغض الأغنياء ولا يملؤها بالحب. إن الذي يفعل هذا كله هو العطف، وأن تشعر الفقير بأنه مثلك، وأن تعيد إليه كرامته وعزة نفسه. ورب تحية صادقة تلقيها على سائل تكون أحب إليه من درهم، ودرهم تعطيه فقيراً وأنت تصافحه يكون آثر عنده من دينار تدفعه إليه متكبراً مترفعاً، يدك تمتد إليه بالمال، ووجهك يجرعه كأس