قلت لصاحبي: ما لهذا الرجل يسير الهويني يتخلع في مشيته وإن إهابه يكاد ينقد من أثر الخيلاء، وينفض الشاطئ بالنظر الشزر وإنه ليتنزى ترفعاً وكبرياءً، ويزهي في تبَّانه وبرنسه وقد ورم أنفه من صلف كأنه رب هذا البحر لا يلوي على أحد ولا ينزل إلى دنيا الناس ولا تتطامن من عظمته ولا تهدأ غطرسته!
فقال صاحبي: آه إن في الناس رجالاً لو انشقَّ عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار. وإن لهذا الرجل حديثاً عجيباً لو اطلعت عليه لألفيته ذئباً لا يترفع عن أن يبلغ في دم الإنسان حتى يرتوي. وإنه ليتصنع ما ترى ليوهم الناس بأنه شيء وما هو بشيء.
قلت لصاحبي: إن له حديثاً؟ هاته! فإن في النفس شوقاً إلى حديثك فأنا أحس فيه طلاوة وراءً وعقلاً.
قال: هذا الرجل ضابط كبير في الجيش، والجيش دائماً رمز القوة والفتوة وعلامة الترفع والإباء، وهو مدرسة تعلم الرجل كيف يصبح قوي القلب في شجاعة، ثبت الحنان في حزم، رابط الجأش في عزم، شديد المراس في بأس. ليكون - حين يجد الجد - فتى الوطن الأول يذود عن حوضه ويحمي حوزته، لا يقعد عن أن يغشى غمرات الموت في غير رهبة، ولا يفزع عن أن يرد مضلاَّت الردى في غير خوف، فهو فخر الوطن عند الجلاد وذخره في ميدان الجهاد. ولكن هذا الرجل تاه في نزوات نفسه فما لمس في الجيش معنى واحداً من معانيه السامية.
كان هذا الرجل - منذ سنوات - ضابطاً صغيراً في مقتبل العمر وزهرة الحياة يتوثب قوة ونشاطاً ويتألق فتوة ورواءً، يبسم للأمل ويبسم هو له، ويسكن إلى أخيلة المستقبل وهي - في ناظريه - وضاءة مشرقة. ثم بدت له في ثنايا حياته فتاة كانت حلم قلبه ونور عينه وسحر فؤاده فما تلبث أن أنطلق إلى أبيها يخطبها: ورضى الأب الثرى بالضابط الفقير زوجاً لابنته الجميلة الفاتنة حين رأى فيه الرجولة والصلاح وحين بدا له أن المستقبل