للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[خلف الرداء الجامعي]

للأستاذ أبي حيان

لم أكد آخذ في قراءة كتاب (الهجاء والهجاءون في الجاهلي) للدكتور م. محمد حسين المدرس بجامعة فاروق الأول، وأتجاوز الفقرات الأولى منه، حتى وقفتني هذه العبارة التي يقولها في سياق الكلام عن تصنيف الشعر العربي ونصيب أبي تمام من ذلك في حماسته. قال:

(أما أبو تمام، فهو يخرج الأبيات في كثير من الأحيان عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها. وقد لاحظ هذا الخلط بعض المتقدمين كصاحب اليتيمة) (ص٣).

وقفتني هذه العبارة وصرفتني عن المضي في القراءة، إذ أحسست فيها - لأول وهلة - نوعاً من التناقض الصارخ يشيع فيها، ويباعد بين طرفيها، ويضرب بعضها ببعض.

صاحب اليتيمة يعرض لأبي تمام في يتيمته، وينقد منهجه في حماسته، إذ يلاحظ عليه خلطه الأبواب بعضها ببعض؟!

هذا هو العجب العجاب الذي لفتني إليه لفتاً شديداَ، ووقفني عليه وقفاً طويلاً، وأنا أحاذر ألا يكون في طرفي ضل فيه، أو تاه عقلي في أدراك مراميه ومغازيه، ألا أن العبارة - كما نرى - يسيرة صريحة مستوية لا عوج فيها ولا أمت. فما لليتيمة وأبي تمام، وأين يمكن أن يقع منها؟ وكيف له أن يقتحم نطاقها ولم يتجاوز الثعالبي بها الشعراء المعاصرين، أو على حد قوله - في تحديد موضوعها -: (نجوم الأرض من أهل العصر، ومن تقدمهم قليلاً وسبقهم يسير)؛ ومن هنا كانت تسميتها: (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر). وعصر الثعالبي هو ما بين منتصف القرن الرابع وأوائل القرن الخامس. فكيف أمكن لأبي تمام من أهل القرن الثالث، بل أوائل ذلك القرن، أن يطوي الزمن، ويتخطى أعناق الأجيال، ثم ينضو عنه الكفن، وينفض عنه ركام التراب، ثم ينتفض قائماً، ليستوي مائلاً بين أصحاب الثعالبي ورجال اليتيمة؟!

أليس هذا عجباً عاجباً جديراً بأن يشتت الذهن ويستغرقه، ويثير بعض ألوان الإعجاب بهذه الجامعية الجديدة القديرة على (الخلق الفن)، والجمع بين الاشتات والاضداد؟!

بلى! وتلك هي الأعجوبة التي ساورتني وملكت على مذاهبي منذ نظرت في تلك العبارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>