من سنن الله في الناس أن البلاغة تلازم القوة فلا تنفك عنها إلا في النُّدرة. والمراد بالقوة قوة الروح لا قوة العضل؛ فإن قوة العضل مظهرها قوة الحركة؛ أما قوة الروح فمظهرها قوة الكلمة. فكلما قويت الروحية في المرء قويت الفكرة؛ وكلما بلغت الإنسانية فيه بلغ البيان. وليس من السهل تعليل سطوع النفس وإشعاع الروح بالمنطق البيّن، فإن ذلك لا يزال فوق الفهم ووراء المعرفة. وحسب المدارك المحدودة أن تقف لدى الظواهر والآثار فتحكم بالاستقراء وتبنى على الواقع. والواقع أن قويّ الرجولة بليغ الكلام ما في ذلك شك. كأنما قوة الحيوية في الرجل تستلزم قوة الشاعرية فيه. ومتى أشرق المعنى في الذهن النفاذ، وتمثل الخيال في الخاطر المجلو، أوجبت الطبيعة بروزهما في المعرض الرائع من وثاقة التركيب وأناقة اللفظ وبراعة الإيجاز.
أولئك علي والحجاج وطارق؛ وهؤلاء الاسكندر وقيصر ونابليون؛ وأولاء هتلر وموسوليني ومصطفى كمال! كلهم كانوا مُثُلاً عالية في شجاعة القلب واللسان، ومضاء السيف والقلم، ونفاذ الرأي والعزيمة، وسمو الفكرة والعبارة. أجادوا القول في الخطبة كما أجادوا الفعل في المعركة، وحذقوا السياسة في السلم كما حذقوا القيادة في الحرب، وأحسنوا مناجزة العدو بشدة البأس كما أحسنوا مناغاة الحبيب برقة الغزل؛ فلا تدري أتجعلهم فيمن جرى على أيديهم أدب الموت، أم فيمن جرى على ألسنتهم أدب الحياة. والرجل القوي يغلب عليه من الألقاب والصفات ما تُغَلِّبه طبيعة عمله. فهو قائد أو سياسي أو مصلح أو كاتب أو شاعر على حسب ما تتجه إليه قواه وميوله من الحرب أو الحكم أو الخير أو الجمال. فخالد ونابليون، وبِسمرك، والجاحظ وفلتير، والمتنبي وهوجو، لا يختلفون في عبقرية الرجولة وإن اختلفوا في دلالة اللقب. والنبوغ في هؤلاء جميعاً لا يكاد يتفاوت في قيمته ودرجته؛ وإنما يتفاوت في شهرته ونفوذه تبعاً لاتصاله بالعامة كالزعيم، أو اعتماده على القوة كالقائد.
قد تقول إن النابغ ممتاز في أكثر صفاته لأنه منتخَب الطبيعة ومختار القدرة؛ ولكني أقول لك إن البلاغة تلازم القوة حتى في الاوزاع والهمج. فالرجل العامي القوي الروح الكبير النفس الصارم الإرادة تجده قويم الفكرة، بليغ الجملة، قوي الجدل؛ ومثل هذا في المدينة أو في القرية يكون دائماً موضع المشورة في الازمة، ومقطع الحكم في النزاع.
وازن بين عصر وعصر في الأدب، أو بين أديب وأديب في الاسلوب، تر الفرق بينهما