في هذا الجو المملوء بالآلام والويلات، وفي هذه الساعات الرهيبة التي ينبض لها قلب العالم هلعاً وجزعاً من مأساة لا يعلم مداها، وتطاحن لا يستطيع أن يقدر نتائجه؛ في هذه اللحظات التي يعتدي فيها الأقوياء على الضعفاء ويطغي المسلحون على العزل الأبرياء، وفي هذه الأيام التي خفقت فيها موسيقى السلم ذات الألحان الشجية والنغمات الحلوة وحلت محلها نواقيس الحرب ذات الأصوات المدوية؛ بل وفي هذه الأعياد السنوية التي كان يقدسها قديماً الهمجيون أكثر مما يقدسها اليوم المتحضرون، والتي كان يلقى فيها الأسلحة المتحاربون؛ في هذه الظروف كلها رأيت من الخير أن أتحدث عن فكرة الحق والقوة.
وإذا ما تحدثت عن هذه الفكرة فإنما أعرض للمشكلة الرئيسية بين مشاكل الفلسفة السياسية منذ أفلاطون إلى اليوم، فهي مشكلة الماضي والحاضر، ويخيل إلي أنها ستبقى مشكلة المستقبل إلى النهاية. وكأني بالحق والقوة ضدين لا يجتمعان وعدوين لا يتهادنان، يقدر لأحدهما الغلب ثم لا يلبث الآخر أن يعدو عليه وينتزع منه سلطته، وما تنازعهما إلا صراع بين الروحية والمادية، بين المثالية والواقعية، بين الإنسانية والوحشية، بين الحضارة والهمجية. ولن أكون في حديثي هذا المشرع الذي يعني بالقوانين وصوغها بين ما فيها من عقوبات وقصاص تحول دون عدوان المعتدين وظلم الظالمين، ولا السياسي الذي يقدم الحلول المختلفة للمشاكل الدولية الهامة. وإنما سأعرض لموضوع الحق والقوة من ناحيته الفلسفية والأخلاقية والاجتماعية، فأبين كيف نشأت الفكرتان وكيف تطورتا وماذا كان لهما من أثر في حياة المجتمع، ثم أشير إلى أوجه التقابل بينهما وموقف الفلاسفة والأخلاقيين منهما
ليس من السهل أن نحدد بالدقة كيف اتجه الإنسان الأول نحو فكرة القوة، أقاده إليها حسه وبصره وسمعه ولمسه؟ أم هداه إليها شعوره وقلبه وعزمه وإرادته؟ وبعبارة أُخرى هل تبينا القوة لأول مرة في أنفسنا أو في الظواهر الطبيعية المحيطة بنا؟ وهل هي من أصل سيكولوجي أو من مصدر طبيعي؟ وهل هي وليدة العالم الداخلي أو الخارجي؟ وأغلب