الظن أنها نتيجة هذين الجانبين وثمرة هذين المؤثرين، فأدركنا القوى الطبيعية وقوتنا الإنسانية في الوقت الذي اصطدمت فيه الطبيعة بنا واصطدمنا بها. وكيفما كان أمر هذه النشأة فإن الإنسان سلم من قديم بوجود قوى في الكون متعددة: طبيعية وإنسانية، مادية وروحية، ظاهرة وخفية، سماوية وأرضية. فإذا ما سألته عن حقيقة هذه القوى عز عليه كشفها وصعب عليه تحديدها، وجل ما تحظى به منه أن يعرفها بآثارها ويتعرفها بنتائجها، فيقول أنها ما يتم به التغير.
بيد انه على الرغم من كل هذا لم يتردد الفلاسفة والاجتماعيون في أن يبينوا هذه الفكرة الغامضة في نشأتها والخفية في مدلولها، وكان لابد لهم أن يفعلوا ما داموا يدرسون التغير وعلله، أن في عالم الطبيعة أو في عالم الإنسان. فنرى الرواقيين في التاريخ القديم ينتهون إلى مذهب ديناميكي شبيه بذلك المذهب الذي صعد به ليبنتز إلى القمة في القرن السابع عشر. يتصورون أن العالم كائن حي مشتمل على النار والحرارة التي هي المبدأ الفعال والمؤثر في المواد والأجسام المنفعلة، ولا كيان للمادة إلا بواسطة ذلك (النفس الحار)(إلابنيما) الذي يضم أجزاءها ويدفعها إلى الحركة والتغير، فقوة العالم كامنة فيه تسيره على نظام ثابت وتخضعه لقوانين معينة. وان فكرة المادة والصورة التي قال بها أرسطو ولم يوضحها تمام التوضيح ولدت في القرون الوسطى تلك القوى الخفية والخواص الكامنة التي هي مصدر التغيرات الكونية والأحداث الإنسانية، وان كان وراءها قوة عظمى، هي قوة القوى وعلة العلل. وإذا كان لبيكون وديكارت رسالة جديدة في التاريخ الحديث إزاء المسائل الطبيعية فهي أنهما حاولا محاربة الصفات الغامضة والصور الخفية التي رددها المدرسيون. على أن بي كون لم يسلم تماماً من آثار تلك الفلسفة المدرسية، وبدا في بحثه التجريبي وكأنه ينقب عن أمور ذاتية وصفات أولية للأشياء هي سر تميزها وتغيرها، وفكرة الحركة والتدافع التي ذهب إليها ديك أرت ترد التغير في آخر تحليل إلى قوة وحيدة، إلى البارئ جل شأنه. ولعل هذا هو الذي قاد ليبنتز إلى نظرية (النتاد) والذرات الروحية، فكان يتصور الأجسام كلها في صورة معنوية ابلغ مما ذهب إليه الرواقيون، ويتوهم أنها مجموعة ذرات روحية فيها قدر من النشاط والإدراك يتفاوت على حسب مرتبتها، وقد أبدعها ونسقها اله هو روح الأرواح ومناد المنادات، وإذا كان مرجع التغير