قرأتَ في المقالة الماضية وصفاً للصحراء ليلها ونهارها وشدتها إذا اشتدت ولينها إن لانت، على أنها تختصر صفتها، ويوجز تاريخها في كلمتين اثنتين هما: الحب والحرب، فليلها للحب، ونهارها حرب، حرب مع الشمس اللاهبة والرمال المشتعلة، والضلال والموت، وحرب مع الناس؛ فإذا أدركك المساء، ولا يدرك مساءها إلا كل بطل صبار قوي متين، تفتح للحب قلبك، فأحسست فيه بشوق إلى الهيام كشوق الظمآن إلى الماء الزلال، وشعرت كأن البادية كلها ملكك، فأنت منها في روضة وغدير، تعانق بدرها إن لم تجد من تعانقه، وتسامر نجمها إن أعوزك من تسامره، ويقبل عارضيك نسيمها الرخي الحبيب الذي يصور لك أنفاس الأحبة. . .
أشهد لقد نقْت ليالي الصحراء نفسي، وصفّتها، وعلمتها الشعور بجمال القبح وأنس الوحشة وأغاني الصمت، فعرفتْ جمال الكون، فأوصلها إلى معرفة كمال المكوّن، كما صهرت أنهار الصحراء عزيمتي فألقت عن نفسي أوضار الخوف والجبن والضعف والتردد، وأشعرتها عظمة الطبيعة وقوتها، فشعرت بعظمة الطابع، ولم أكن أعدم النظر في الأفاق الواسعة، ولا حرمت التحديق في المناظر البعيدة، وإني لأبصر من شباك داري دمشق كلها وغوطتها والقرى المنثورة فيها، لا يغيب عني من ذلك شيء فأرى فيها نهاية الجمال والرواء، ولكني لا أرى فيها طهر الصحراء ولا صفاءها. الصحراء مبسوطة مكشوفة كالرجل الصريح الشريف ظاهرها كباطنها لا تخفي سراً، ولا تبطن دون ما تظهر أمراً. . . ليست كالمدن ولا كالرياض، والله وحده يعلم كم يتوارى خلال تلك الأشجار المزهرة المخضرّة، وتحت تلك السقوف المزخرفة والقباب والسطوح من رذائل ورزايا، وكم يسكنها من عوالم الكذب والنفاق والحسد
إن الله حرم الصحراء رواء المدن، وروعة السهول، وفتنة الأنهار، ولكنه عاضها عن ذلك ما هو أحلى وأسمى: جمال الصدق وبهاء الصراحة، وسناء الإخلاص، ليس في الصحراء مثل النيل ولا الفرات تأوي إلى ضفافه، وتبصر غروب الشمس في مائه، وتمخر بالزورق عبابه، وما فيها إلا برك وغدران قليلة الماء غير دائمة ولا باقية، ولكنها على ذلك أجل من