بهذه الأغنية الرقيقة كان صوت أمينة الوتري الرخيم يموج لذيذاً في مسمع الليل المقمر الساجي؛ وكان أترابها يرجعن عليها اللحن ومناجلهن في أيديهن تجز سيقان القمح فتسمع لها في خلال النغم خشخشة آلة موسيقية غريبة!
كان ذلك في ليلة بين أواخر مايو وأوائل يونية، والزرع قد استحصد وتهالك بعضه على بعض من الذبول واليبس، فلم يعد يقوى على حمل سنبله. وكان الحاصدون والحاصدات قد خرجوا عشاء إلى الحقول الذهبية، في أيديهم المناجل، وعلى أكتافهم الأردية، وهم يوقعون على طرق الربيع العشيبة أهازيج الجذل والأمل، فباتت القرية هامدة كأنما ضرب على آذانها الموت فلا تسمع سامراً على مصطبة ولا نابحاً على تل. فأخذني منها ما يأخذ السائر الوحد من الغابة اللفة أو المقبرة الفسيحة. فخرجت أنشد الفرجة والأنس في حقل من حقولنا القريبة، وكنت أعلم أن في حصاده جوقة من الأوانس الحسان الوجه والصوت. فلما غمرني ليل الحقول، وملكني سلطان الطبيعة، أحسست في نفسي دنيا جديدة لم أحسها من قبل في نهار الناس ولا في ليل القرية! فقد كان القمر حينئذ في الفخت يرسل أضواءه اللينة الرخية، هادئة كإشعاع الحلم، شاحبة كإسفار الأمل، فيلون الغيطان والغدران والطرق بلون الفضة الكابية؛ ونسيم آذار الندي العبهري ينفح بطراءة الفردوس الإنسان والحيوان والشجر، فينتعش الهامد ويتنفس المكروب وتتندى الحصائد؛ فتسمع الجنادب تصر في هشيم البرسيم، والضفادع تنق على حفافي الترع، والسواقي تنوح على رءوس الزروع، والحاصدات يغنين في مزارع القمح، وطيور المساء تبغم على أعالي الدوح، وكلاب الحراسة تنبح على أطراف البيادر، فيكون من كل أولئك إيقاع موسيقي عجيب يبعث الروعة في النفس، ويلقي الشعر على الخاطر!