على أن هذه الأصوات المتجاوبة على نشوزها لم تكن هي مبعث السحر الذي غلب على مشاعري؛ إنما كان مبعثه ذلك السجو العميق السحيق الذي ضرب على حياة الليل فهيمن على كل حس وسيطر على كل حركة فما نسمع الأصداء في جوف هذا السكون، إلا كما ترى الأنداء في رمال المفازة
كنت أمشي بين هذه الظواهر الليلية وئيد الخطو رزين الخيال مرهف الحساسة، لا أجد في طبعي ما كنت أجد في النهار من مرح الصبى وخفة الحداثة، فكأنما يضع الليل من ثقله على الجسد والفكر والشعور فيتغلب على المرء الهدوء والبطء. ذلك إلى أن الجو الاجتماعي في القرى ليالي الحصاد، يختلف عنه فيها أيام الجني. ففي حصاد القمح يأخذ القرويين حال من التدين الذاكر الشاكر، لأنهم يتقبلون فضل الله في هذه الحبة المقدسة ليحفظوا بها البدن، ويمسكوا عليها الروح؛ فهي عندهم مرادفة للحياة، يسمون خبزها (العيش) و (النعمة)، ويتحرون في كسبها الحل والحرمة، ويذكرونها فيذكرون الرزق والصدقة والزكاة والبركة
أما في جني القطن فيدركهم مس من الطمع والغرور فيحبون الدنيا ويعشقون المال ويرغبون في اللهو ويذكرونه فيذكرون الربا والثراء والرواج والزواج والهم
كنت لدى ساقية الغيط الراقدة في كلةٍ من أغصان الصفصاف المرسلة حين ارتفع صوت أمينة الحنون بالأغنية التي ذكرت بعضها في مطلع هذا الفصل. وكان الحصدة من رجال ونساء يزحفون إلى القمح بمناجلهم صفاً فيتركونه ورائهم أضغاثاً من الحصيد منظومة الأسافل والسنابل، ثم يعودون الحين بعد الحين فيركمونها حزماً غليظة ويدعونها تنتظر النقل على الجمال إلى البيدر
وأجمل ما في ليالي الحصاد منظر الحقول المنبسطة على مدى الطرف وقد ضربت في صفرتها أضواء القمر فابيضت ابيضاض المصريات الحسان؛ ومجالس الشباب والشواب على حصائد القمح الوثيرة يديرون بينهم سقاط لحديث الفكه، ويتبادلون في احتشام كنايات الغزل الحي؛ وغناء الفتيات وزمر الفتية يتواردان على سمعك من قريب ومن بعيد، فيفعلان في نفسك ما لا يفعله الموسيقار الحاذق؛ ثم نوم هؤلاء وهؤلاء في الهزيع الأخير على فرش من الحصيد تكلاهم عين العفاف وتتمثل في أحلامهم صور الفضيلة. فإذا ما