إني أشكو إليكم القائمين على هذه المحطة، فقد ظلموني وظلموكم معي. جاءوا بي لأحدثكم، فحسبت أني سأدخل نادياً فيه ناس أراهم، فأخاطبهم على قدر عقولهم، فإن كانوا علماء كلمتهم كلام العلماء، وإن كانوا من العامة خاطبتهم خطاب العامة، فإذا هم يصعدون بي درجاً بعد درج حتى إذا كلَّت رجلاي من الصعود، وهممتُ بالرجوع، قالوا: قد وصلنا، فنظرت فإذا نحن في أعلى طبقة من (عمارة البرق والبريد)، فتلفتُّ أنظر أين النادي الذي سأخطب فيه؟ فما عهدت نادياً يبني على رأس مئذنة! وأين الناس؟
وإذا هم يدخلونني من دهليز إلى دهليز، حتى انتهيت إلى زاوية مظلمة، فأشاروا إلى باب، وقالوا:(هُسْ)، إياك أن تتكلم، أو تعطس، أو تسعل، أو تخبط برجلك، أو تدق بيدك، أو تُخَشْخِشْ بأوراقك. .!
فقلت: فكيف إذن أتحدث؟ أتريدون أن يكون حديثي إيماء وإشارة من غير كلام على لغة الخرسان؟
قالوا: لا، ولكن إذا جاء دورك تكلمت
وفتح الباب، ودخلنا إلى غرفة صغيرة كأنها الصندوق المغلق، لا شباك ولا باب ولا نافذة ولا كوّة ولا شقّ لدخول الهواء، ورأيت فيها مكتباً ما عليه إلا علبة قائمة على عمود من الحديد ووراءها مرآة، وقد وقف أمامها شاب يصوّت أصواتاً بعضها يخرج من حلقه وبعضها من صدره وبعضها من بطنه، ويتخلَّع ويتلوّى مع النغمات، وقد يأتي بكلمات يلقيها إلقاء بلا نغم، ووراءه رفاق له يضربون بأعوادهم ويزّمرون، فأجهدت ذهني خمس دقائق كاملات لأعرف ماذا يصنع هذا الرجل: أيغني أو يخطب، أم هو مصروع معتوه يخلِّط، أن يتكلم بلسان أهل مالطة، فلم أهتد إلى حقيقته، ثم سكت، وتقدم من العلبة أحد