موظفي المحطة فقال: لقد انتهت الحفلة الموسيقية. . .
فقلت: إذن هي حفلة موسيقية؟!
سبحان القادر على كل شيء!
وأقبل الموظف عليّ، فأشار بيده إلى حيث كان يقف الشاب صاحب الأصوات المخنثة، فقلت: ماذا؟ أأعمل أنا أيضاً حفلة موسيقية؟
قالوا: هسْ! هسْ!
وأدار مفتاحاً كمفتاح الكهرباء، وجعل يكلمني بلسانه بعد أن كان يتكلم بيديه. وقال: تفضل يا أستاذ، أقعد وتكلم!
قلت: أتكلم مع من؟ أين الناس؟ أين المستمعون؟!
قال: تكلم هنا. . . وأشار إلى العلبة
قلت في نفسي: أعوذ بالله من شر هذه الغرفة! لقد حسبتها سجناً مغلقاً، فإذا هي مارستان! أأكلم علبة؟ أمجنون أنا؟ ونظرت في المرآة فوجدت صورتي متغيرة. . . أهذا أنا؟ وأنعمت النظر، فإذا الذي حسبته مرآةً لوحٌ زجاج بيننا وبين الغرفة الأخرى، فنحن نرى من فيها، ولكن لا نسمع أصواتهم، فاجتمعت عليّ هذه الليلة المتناقضات: هنا أشخاص أراهم ولا أسمع أصواتهم، وهنالك صندوق تخرج منه أصوات أسمعها ولا أرى أهلها، وبحثت عن مهرب فلم أجد، وفتشت عن نصير فلم أَلقَهْ، وما حولي إلا شباب جدد، وموسيقيون معهم أعوادهم، وأنا الشيخ. . . الوحيد. . . في هذه العصبة، بعمامتي و. . . وكدت أقول، ولحيتي، ثم ذكرت أني تركت اللحية عند الحلاق. . .!
فاستسلمت للمقادير، وقعدت، والعرق يسيل على عنقي ووجهي، وشرعت أكلم العلبة كالمجانين، خوفاً من أن يحل بي هذه الليلة ما هو أعظم!
نعم. لقد ظلمت، أيها السادة، وظلمتم معي، لأن أكثركم يؤثر (عتاباً) بلدية، أو (قرّادية) نقدية، أو أغنية شاكية باكية، ميتة مميتة، لا شرقية ولا غربية. من أغاني عبد الوهاب على كلُّ ما في الدنيا من محاضرات، ولكنكم تستطيعون أن تديروا مفتاح الرادّ، فتتخلصوا مني ومن محاضرتي، وتبعثوا إليَّ بما يوحيه إليكم نبلكم وكرمكم من الشتائم واللعنات التي لا أسمع منها شيئاً، ولكن المصيبة عليّ أنا، لقد حُبست في مارستان، لا أخرج منه حتى