للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - المستقبل وأسرار الوجود]

بين السببية والمستقبلية

للأديب عبد الجليل السيد حسن

عرض لمشكاة السببية:

حينما نلقي بقطعة من القطن في النار فلا نشك في احتراقها، وحينما يأكل الجوعان فلا نشك في شبعه، وحينما تضرب الطفل فلا شك أنه سيبكي. وحينما ترى الغادة الهيفاء والوردة الناضرة فلا شك في إعجابك بجمالها إذا كنت ممن يقدر الجمال في المرأة والزهرة.

ولتسأل معنا الآن: ما الذي أحرق القطن، وأشبع الجائع وأبكى الطفل، وأثار فيك مشاعر الجمال؟ ولا أشك في أنك ستجيب على الفور: إن السبب في ذلك هو النار والأكل والضرب والجمال الكامن في المرأة والوردة. ولكن يا صاحبي لا تكن سريع الحكم، وانظر في الأمر وتدبره، هل النار حقيقة هي سبب الإحراق؟

ما هذا؟ أتريد أن تخدعني عما أحس وأرى وتقول لي: إن علة الإحراق شيء غير النار؟

- لتعلم أنني لست أريد خداعا أو تغريرا، ولكني أريدك أن تكون دقيقا أمينا فيما تشاهد وتدرك، وأن تأخذ الأمور كما ترد إليك لا تزيد فيها ولا تنقص. فما العلة اللازمة والسبب القاهر الذي يجعلك تسند الإحراق إلى النار؟ أليس هو أنك شاهدت احتراق قطعة القطن عقب إلقائها في النار، ولم تر عينك شيئا أكثر من ذلك؟ إذن ما الذي دفع بك إلى أن تجزم بأن النار هي علة الإحراق؟ لاشيء غير مشاهدة حدوث هذا مع ذاك أو مقارنا له. فكأنه ليس هناك شيء يمكن أن يعد سببا لشيء أو علة له؛ بل هناك تعاقب أو اقتران بين الحوادث، ولا شيء غير هذا؛ فقطع الرقبة ليس سببا في القتل، وكسر الرجل ليس سببا في الألم، ولقاء الحبيب ليس سببا في النشوة التي تصاحبه، وإضاءة المصباح ليست سببا في الضوء الذي يعقبه، وإعطاء المريض دواء ليس هو السبب في شفائه. . وغير ذلك من الأفعال، بل كل ذلك ما هو إلا حوادث تعقب حوادث وأشياء تقترن بأشياء؛ أما أن نقول إن هذا سبب ذلك، فهذا مالا يقره العقل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>