ذكرني وصف أستاذنا الزيات لصورة من (صور الماضي) في مصر بصورة من هذا الضرب المضحك المبكي، حُدثت بها من عهد غير بعيد. فأخذت بمجامع قلبي لما فيها من روعة، ولأنها تكاد تكون حقيقة لا أثر للخيال فيها، ولأنها تصدق عندنا على الماضي والحاضر. . . ويا للأسف
كنا في صيف عام ١٩٣٣ في قرية سيْر، ذلك المصيف الذي عشقه الدكتور فارس نمر، وأعجب به الباشا سيد البنك المصري وسيد الأعمال المالية في بلاد العرب، حتى كاد يفكر في إمداده وتمْصيره. وقد اجتمعنا ليلةً على جاري عادتنا في شرفة الدار التي يتطأ من تحتها وادي سير الفتان، ومن ورائه ينبسط البحر ساجياً وقد ازدان منه (خليج عَرْقَة) الفينقي بطائفة من قوارب الصيادين تحمل في مقاديمها مشاعل تبهر الأسماك وتستهويها. فليساعد تجمعها حول القوارب على صيدها. وكانت تلك القوارب تختفي في الظلمة الليل فلا يبدو منها إلا أنوار المشاعل كصفّ من مصابيح نُصبتْ في شارع طويل؛ حتى كنا نوفَّق في دعاباتنا أحياناً إلى أن تخدع بها طائفةً من زوارنا فنوهمهم أنها أسكلة (ميناء) طرابلس، على حين أن الأسكلة تحتجب وراء الجبل، فإذا عادوا إلينا في النهار سألوا عن الأسكلة! فقلنا لهم: سرقها الصيادون. . .
وكنا نتحدث، كما يتحدث المصطافون في هذه القرية الهادئة المحرومة مرح المصايف الأخرى في لبنان بأحاديث تشوبها كآبة الضجر الذي يلازم المكرر الوحيد النغم المملول من كل شيء. وساقنا الحديث إلى ذكر أحوال القضاة ومظالمهم، وندرة (قضاء الجنة)، وكثرة (قضاء النار)؛ وكان معنا في هذه الجلسة سيد القرية، وهو رجل كثير الصمت طويل الروية، سليم المنطق بالفطرة الموهوبة لا بالقوة المكسوبة، رقيق الحاشية، لين العريكة، شديد الحذر من إطالة اللسان، والخوض في أحوال الناس. لا نشكو من طيب عشرته إلا أنه يتركنا الساعات الطوال نتحدث، وهو معتصم بالصمت يسمع. فإذا سكن الحوار، وخمد الجدل، ألقى بكلمة أو كلمتين فيهما زبدة الفول وفصل الخطاب. . .