كان الرافعي رحمه الله حجة في علوم اللسان، ثقةً في فنون الأدب، عليماً بأسرار اللغة، بصيراً بمواقع اللفظ، خبيراً بمواضع النقد، محيطاً بمذاهب الكلام. وقلما تتهيأ هذه الصفات لغير المطبوعين من الأدباء الذين تعاطوا مهنة التعليم فاستنزفوا أيامهم في درس القواعد وحفظ الشواهد وفقه النصوص بحكم الصنعة. فكنت إذا ذاكرته في شيء من دقائق النحو وخواص التركيب وفروق اللغات وجدته على ظهر لسانه كأنما انصرف من مراجعته لوقته. ودراسة الكاتب أو الشاعر للغته وفنه هي في رأيه ورأي الحق شرط لوجوده؛ فلا يكون النبوغ والأستاذية بدونه، ولا تجزي الطبيعة ولا المحاكاة عنه. وكان - شهد الله - فيما بينه وبين أخصائه يرفع أدب العقاد لوضوح هذه المزية في كل ضرب من ضروبه.
ولقد بلغ علم الرافعي بالعربية وآدابها حد الاجتهاد والرأي، فكان يقف في التعليل والاستنباط من ثقاتها ورواتها موقف الند؛ وقد يتعظم أحياناً فيقف منهم موقف الأستاذ. فهو في أدبه مطلق الحرية مستقل الإرادة في حدود المأثور من بيان العرب؛ ولكنه في فلسفته مقيد النظر مسير الفكر لنزوله في الرأي على حكم الدين.
على انك لا تعدو الصواب إذا قلت إن حرية أدبه أشبه بعبودية فكره، لأن مصدرهما وموردهما واحد هو القرآن. والقرآن من جهة الأدب غاية الجمال، ومن جهة الفضيلة غاية الخير، ومن جهة الفلسفة غاية الحق. لذلك كان قوله في القديم والجديد قول العربي الذي يؤمن أن لغته التي تكلم بها الله نامية بذاتها لأنها حية، ومتطورة بطبعها لأنها قوية؛ وكان قوله في المرأة والرجل قول المسلم الذي يعتقد أن دين الله حق لا يبطله قدم، وأن شرعه قانون لا يعطله شهوة. وما دام العرب أحياء فأدبهم متجدد، وما دام القرآن خالداً فدينهم قائم.
على هذين القطبين كانت تدور فلسفة الرافعي الأدبية والاجتماعية. ولعلي تساهلت إذ قلت فلسفة الرافعي، فليس للرافعي فلسفة؛ إنما هي فلسفة القرآن وأدبه قام منها مقام ابن رشد من أرسطو: يقرر ويحرر ويدافع من غير أن يكون لمنطقه حكم ولا لرأيه اعتراض.
كان الرافعي في بعض حالاته يفتن في الصورة التي يرسمها افتنان المصور الخيالي.