يضيف إليها من المشاهد ما لا تقره الحقيقة، ويضع فيها من الألوان ما لا تعرفه الطبيعة. وقصده القاصد من ذلك أن يريك قدرة ذوقه على الملاءمة، وقوة ذهنه على التوليد، ويعطيك للشيء أو للشخص صورة إذا لم تكن كانت، فهي التي ينبغي أن تكون. فهو إذا كتب في موضوعٍ ما سمح لعاطفته أن تجر، ولهواه أن يدفع، ولفنه أن يزخرف، ثم يستخدم براعته في التدليل على صحة العاطفة ونزاهة الهوى وصدق الأداء، فيكون من امتزاج الخيال بالواقع، واشتباه الغلو بالقصد، والتباس البهرج بالصحيح صورة غامضة الدلالة، خافتة الروح، ولكنها بديعة الإطار، رائعة اللون، منمنمة الخطوط؛ وذلك أكثر ما تراه في حديث القمر والسحاب الأحمر، والمساكين، وأوراق الورد. أما إذا اتصل فنه بشعوره، وافتنانه بطبعه، ورأيه باعتقاده. فانك ترى الإشراق في اللفظ، والجلال في المعنى، والسمو في الروح، والإعجاز في الصنعة. وهنالك تجد الرافعي في جلوة الإلهام التي تشدهه هو نفسه فيقول لي ولمن يأنس إليه: إن حالا تشبه حالات الوحي تقوم به في بعض ساعات الليل حين يكتب في إعجاز القرآن أو في الدفاع عن أدبه، فلا يكون فيما ينشئ إلا وسيطاً عن قوة من وراء الغيب. وأكثر ما وقع له ذلك في كتابيه (تحت راية القرآن) و (وحي القلم). وكان من شذوذ العبقرية في الرافعي اعتداده بنفسه إلى حد الصلف، واعتقاده بالغيبيات إلى حد السذاجة. وله في ذلك حوادث وأحاديث ربما عرض لها صديقنا العريان في ترجمته له.
والرافعي بعد ذلك كله كاتب من الطراز الأول قلما يجود بمثله هذا العصر المجنون الذي يتبجح بالسرعة ويريد أن يأخذ حظه الضروري من المعرفة مختصراً في رسالة، أو معتصراً في مقالة.
هذه كلمة مجملة كتبناها عفو الخاطر وفيض الذاكرة في ناحية من نواحي أدب الرافعي، اعتمدنا فيها على خلاصه وحديثه وقراءته؛ أما دراسة الشرح والتفصيل، والنقد والتمثيل، والدعوى والدليل، فتلك لها طريقة غير هذه الطريقة، ومناسبة غير هذه المناسبة. ولعلني أرجع إلى الرافعي في عدد قريب فأعلن ما أفضى به إلي من الرأي الحق في خصميه طه والعقاد.