هذه الشمس تطالع العالَم بجفنيها من جانب الأفق. وما تلبث أن تتسلَل منه رويداً رويداً، حتى يَستوي لإطارُها على متنه. وما تزال في خلال ذلك تضاعف ما ترسل على وجه الأرض من خيوطها العسجدية. وكذلك ما تزال تمطُلِ فيها وتبسُطها من الشرق إلى الغرب. وهكذا تظَلَّ تحبو في مَدرَجها إلى قبةَ الفَلَك. وكلما خطت بالزمن خطوة، رأيتها وتترعرع، ويسطع ضوؤها، ويحمَي وهجها إلى أن تبلغ الندوة، وتستوي على أعلى الأَوج.
وأنت خبيرُ بأنه ليس بعدَ الصعود إلاّ الهبوط، فهذه سنة الله تعالى في كونه؛ وكذلك تجري سنَتُه على هذا الكائن العظيم؛ فليس بعجيب أن يَدعو الفلكيون هذه اللحظة، أعنى لحظة استواء الشمس في أعلى الأوج بالزوال، إذ كان بدء الزوال، هو غاية الكمال!
وهذه الشمس تمشي إلى الغروب في منحدرها كذلك رويداً رويداً، كما تتداخلها الشيخوخة فالهرم رويداً رويداً؛ حتى إذا أصفر لونها، وبردت السنُّ من جرمها، جعلت تَتدلى في قبرها من مغرب الأفق مستمهلةً مستأنية؛ وهكذا تغيب في أحدها، غير تاركة من التَّراثِ إلاّ صُبابةً من الذهب المذاب، سرعان ما تتبخّر في حلك الظلام. وقد تترك تراثها الفضيّ على صفحة القمر، يرفد العالمَ به بعض ليالي الشهر.
تلك سيرة الشمس كلَّ يوم: ميلادٌ فترعرع ففتوّة، فشبابٌ وفراهة وقوة، وكهولة فشيخوخة فهرم، فتدسٍ في النهاية تحت الرجَمَ. وسبحان الحيّ الذي لا يموت!
على أنها في جميع مراحل حياتها عاملةٌ جادة جاهدة، لا تني عن السعي لحظة واحدة. فها هي ذهِ تَستنبت الأرض، وتزُكي الزرع، وتبسَّق الشجر، وتنضج الثمر، وتفتَّح من أكمامه الزهر. ثم هاهي تي، في عنفوانها، ما تفتأ تجتذب البخار، عذباً سائغاً من أجاج البحار؛ حتى إذا انعقد سحاياً، سَحّ فأخَضل قفراً وأعشب يباباً. وهذه الأنهار الجارية سمُوتُها في أقطار الأرض، تبعث أسباب لكل متهيئ للحياة. وكذلك لا ننس أنها تبرح تعمل عاَّمة النهار، في تطهير الأرض مماَ يَعلق بجسدها من الأخباث والأوضار.
فأي عنصر، لعمري، من حياة هذا العالم يمكن أن يغني عن الشمس؟ ألا أنها لمصدر الحياة