للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[نشأة المدنية]

الأستاذ زكي نجيب محمود

كان راسخا في الأذهان إلى عهد قريب أن دراسة التاريخ بعيدة كل البعد عن دقة العلوم الطبيعية، ذات القوانين الثابتة المطردة، من حيث طريقة البحث، وانتزاع الأحكام الكلية من الأمثلة الجزئية، لأنه رواية لأعمال الإنسان وسلوكه فرداً ومجتمعاً، وعلى ذلك فهو لا يخضع لقانون دقيق، كما تخضع العلوم الرياضية مثلا، ما دامت أعمال الإنسان نفسها لا تطرد ولا تستقيم مع قانون خاص، وبناء على تلك العقيدة الراسخة، لم يحاول مؤرخ في العصور الماضية (فيما نعلم) أن يستنبط من شتيت الأخبار التي يرويها التاريخ قانونا عاما ينتظم الجماعة الإنسانية، كما أستنبط الرياضيون من مختلف المظاهر الكونية مجموعة القوانين اليقينية التي لا يجد الشك إليها سبيلا.

ولكن دراسة التاريخ أخذت تخطو في العصر الحديث خطوات نحو الدقة العلمية واستخلاص القوانين العامة من الجزئيات التي تزخر بها بطون المجلدات. ومن أدق ما قرأنا في هذا الموضوع، ما كتبه توماس بكل، المؤرخ المعروف، الذي حاول في كتابه (تاريخالمدنية في إنكلترا) أن يخضع النشاط الانساني، الذي يبدو في أحداث التاريخ المختلفة، إلى نواميس ثابتة دقيقة، كالعلوم الطبيعية سواء بسواء، وكأني به قد وضع المجموعة البشرية في مخبار وأخذ يضيف إليها من المواد ألواناً مختلفة، حتى انتهى به البحث إلى تلك النتائج القيمة التي دونها في كتابه المذكور،

وسنحاول في هذا البحث أن نحلل العوامل الأساسية، والقوانين العامة، التي أنتجت المدنية الإنسانية من أحضان الهمجية الاولى، لإنها لم تنشأ حيث نشأت اعتباطا وعن طريق الصدفة العمياء، ولكنها نتائج محتومة لمقدمات طبيعية.

ولكن ما هي هذه المدنية التي نحاول أن نتتبعأسباب نشأتها؟ أليس جديراً بنا أن نلم إلمامة سريعة بمعناها أولاً، حتى يقوم البحثعلى دعامة قوية وأساس متين؟ نعم، ولكن دون ذلك البحوث المستفيضة وليس هذا المقال القصير مجالا لهذا البحث المتشعب الأطراف، والذيلا أحسب موضوعا بلغ فيه الخلاف بين الباحثين من الشدة والاتساع ما بلغه في هذا الموضوع، وأذكر أني قرأت ملاحظة طريفة أوردها الكاتب (الإنكليزي هافلوك اليس) في

<<  <  ج:
ص:  >  >>