للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مقال كتبه عن المدنية، حيث يقول عن هذه الكلمة إنها لم ترد في دائرة المعارف التي وضعها جماعة الانسيكلوبيديين لكثرة ما يقوم حول تعريفها من خلاف.

ولكنمهما يكن من أمر ذلك الخلاف في مدلول المدنية، الذي منشؤه تباين وجهات النظرللحياة، فأن أحداً لا ينكر إنها تعتمد في تقدمها بوجه عام على تقدم العلوم والمعارف أكثر من أي شيء آخر، وأكاد أقول في شيء من اليقين إنها عبارة عن كمية المعارف التيوصل إليها الانسان، لا أكثر ولا أقل، على الرغم من تلكالدعوى التي لا يؤيدها منطق ولا تاريخ والتي يأخذ بها بعض المفكرين في كثير من النعرة الواهية، وهي أن المدنية رهينة بتقدم الأخلاق وحدها، ويكفي أن تلقي نظرة عجلى إلى تاريخ الإنسانية منذ فجرها حتى الآن، لتعلم أن الأخلاق في العصور الأولى هي هي الأخلاق في العصر الحاضر، لم تتقدم إلا بمقدار ضئيل جداً لا يكاد يذكر، فلا يزال الصدق محموداً والكذب مرذولاً، ولا تزال الأمانة خيراً والخيانة شراً. . . أما العلوم فهي تسير كل يوم، إن لم يكن كل ساعة سيراً حثيثاً إلى الأمام.

يتضح من هذا أن المدنية في جوهرها عبارة عن المعارف الإنسانية، فإذا ما أردنا أننبحث عن الأسباب التي أدت إلى نشأة المدنية، فلنبحث عن نشأة العلوم، ماداما صنوين متلازمين، أو بعبارة أدق لأنهما شيء واحد.

حاول أن تصور لنفسك الجماعة الإنسانية في فجر التاريخ، فترى إنسانا لا يملك من الأدوات التي يستعين بها في عمله الشاق شيئا، ترى إنسانا يعمل بيده كل شيء، لا يكاد يستيقظمن نومه حتى يمشي في مناكب الأرض سعياً وراء قوته من نبات وحيوان، ويظل هذا السعي حتى يغشاه الليل بظلمته، فيركن إلى كهف يأوي إليه مهدود الجسد، فيستغرق في النعاس حتى تشرق عليه الشمس كرة أخرى، فينهض من مخدعه ليعيد في يومه سعي أمسه.

فهذا الذي يستنفد نهاره في الحصول على قوته وسائر ما تقتضيه الحياة من شئون، ويقضي ليله في جوف الكهف نائما، لا يكون لديه من الفراغما يمكنه من التفكير في خلقالسماوات والأرض، والتفكير أولى مراحل العلم، وإذن فالعلوم كامنة في ثنايا العدم، ولا يكتب لها الظهور إلى ضوء الوجود إلا إذا تبدلت الحياة غير الحياة والإنسان، فتتوفر لجماعة إنسانية

<<  <  ج:
ص:  >  >>