للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بيئة تساعدها على إنتاجمحصول يزيد على طعام يومها، حتى يتكون فيض إنتاجي لا يلبث أن يتجمع عند أفراد قليلين، هم الأقوياءعادة، وبذلك يستطيع ذلك النفر القوي أن يتخلص من المجهود الذي كان يبذله لتحصيل ضرورات الحياة، وإذن فقد تمتع بالفراغ الذي لابد أن يستتبع التفكير في مظاهر الكون، وهذا التفكير هو النواة الأولى للعلوم والمعارف المختلفة.

يتضح مما سبق أن الشرط الأول لنشأة العلوم - وبالتالي المدنية - هو خصوبة التربة. الذي يؤدي إلى وفرة الإنتاج بما يزيد على حاجة الاستهلاك، وأمثلة ذلك كثيرة في التاريخ، فالمدنية المصرية القديمة لم تنبت في وادي النيل إلا لخصوبة تربته، كذلك الأمة العربية كانت قبل إسلامها أقرب إلى الهمجية منها إلا أي شيء آخر، فلما جاء الإسلام، ثم تبعه انتقال الأعراب إلى الوديان الخصبة كوادي النيل ووادي دجلة والفرات، حيث الخصب والنماء والثروة أنقلب هؤلاء الأجلاف شعباً متحضراً بلغت مدنيته حداً قل أن شهد مثله التاريخ.

ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أن المدنية الأوربية تختلف في أسباب نشأتها عن المدنيات القديمة، فبينا هذه تنشأ من خصوبة التربة، نرى الأولى نتيجة لاعتدال المناخ. ولم كانت المدنيات القديمة قد تأثرت بالعوامل الطبيعية وحدها، أعني إنها نتيجة لتفاعل المناخ والتربة من غير أن يتدخل الإنسان تقريبا، وخصب التربة محدود الغلة مهما أجيد استغلاله في حين أن الحضارة الأوربية لا يقف في سبيلها شيء لأنها أثر لتفاعل المناخ وذكاء الإنسان الذي لا يمكن أن نتصور له حدوداً يقف عندها، لهذا فالمدنية الأوربية أقوى أساساً وأعمق جذوراً وأبعد مدى من المدنيات القديمة جميعاً.

ولكن إذا كانت المدنية في أول أمرها (كما بينا) تابعة لخصب التربة، حتى يتوفر من المحصول الزائد ما يتجمع فيكفي فئة من الناس مؤونة العمل، وبذلك تبدأ الطبقة العلمية في الظهور، فلماذا اقتصرت المدنيات على المنطقة المدارية، حيث ظهرت في مصر والشرق الأدنى والهند وبيرو ومكسيكو، وكل هذه تكاد تكون على خط عرض واحد، نقول لماذا لم تنشأ المدنية في المنطقة الاستوائية، مع إنها وفيرة الإنتاج النباتي الذي يحقق شرط الفراغ الضروري للتفكير، فالعلم، فالمدنية؟ الجواب على ذلك سهل ميسور، وهو أن الجهات

<<  <  ج:
ص:  >  >>