الحارة لا تساعد الإنسان على التفكير والنشاط، بل من شأنها أن تقعده وتعجزه عن ضروب النشاط جميعاً، ومن جهة أخرى، فأن الوفرة النباتية الطبيعية، التي ليست ثمرة العمل الإنساني، تؤدي إلى التواكل وتعمل على خمود الذهن، لأن الحاجة أم الاختراع. وليس هناك حاجة تشحذ القوى العقلية لاكتشاف أي اختراع. إذن فأنسب مكان تظهر فيه المدنية أول عهدها، هو ذلك الذي يضطر الإنسان إلى العمل لتحصيل القوت، والذي يكون من خصبه ما يستطيع به أن يمد الإنسان بغلة تربى على حاجة الاستهلاك. ولكن قد يعود القارئ فيعترض بقوله إن هذا المناخ المعتدل الذي يبعث الإنسان على النشاط الذهني، وتلك الخصوبة التي توفر للإنسان محصولا زائداً، قد يتوفران في كثير من بقاع أوروبا مثلا، فلماذا لم تظهر المدنية في تلك الربوع في بادئ أمرها؟ هنا يتقدم (بكل) في كتابه الذي ذكرناه في أول هذا المقال، بتعليل دقيق يدعو إلى الإعجاب وإطالة النظر فهو يرى إنه لابد للمدنية في مهدها من كثرة عدد السكان بحيث يكون التفاوت عظيما بين الطبقات، حتى تستطيع الطبقة الحاكمة أن تتمتع بكامل السلطان المطلق على أفراد الشعب، فلا ينازعونها في الاستيلاء على ثمرة مجهود غيرها، وزيادة السكان بما فيها من تفاوت الطبقات، ميسورة في الجهات الدافئة دون الشمالية الباردة وإليك البيان:
لا ريب في أن الإنسان يدور مع الطعام وجوداً وعدماً فبينما تراه يتكاتف ويزدحم في البقاع الخصيبة، ترى الصحراوات خراباً لا يكاد يعمرها أحد، وهكذا يتوقف عدد السكان كثرة وقلة، على درجة خصوبة الأرض، ذلك لأنه كلما كثر الطعام كان الحصول عليه ميسوراً لكل إنسان، ومادامت غائلة الجوع مأمونة الجانب، فزيادة النسل تطرد إطراداً لا يحول دونه شيء، والعكس صحيح. أي كلما قل الطعام وعز مناله على الفقراء، تناقص السكان حتى يتكافأ عددهم مع ما تنتجه الأرض من محصول.
ولسنا بحاجة إلى ذكر ضرورة الطعام للكائن الحي لأدائه وظيفتين هامتين لا مندوحة عنهما لحفظ الحياة: فهو الذي يحفظ حرارة الجسم كما أنه يعوض ما يفنى من الأنسجة أثر القيام بالعمل، ولكنا نريد أن نرتب على ذلك نتيجة لها خطرها في موضوع بحثنا، فمن الحقائق المعروفة أن حرارة الجسم تتولد من اتحاد أكسجين الهواء الذي نتنفسه مع كربون الطعام الذي نأكله، فيولد هذا الاتحاد الحرارة اللازمة لحفظ كيان الإنسان، فلكي يحتفظ الجسم