أما (حياتي) فقد علمت أنها ترجمة لحياة الكاتب الاجتماعي الكبير الدكتور أحمد أمين بك، كتبها بقلمه الصريح الصادق فجاءت صورة لقلبه، وشهادة على غيبه، ومرآة لبيئته. وما كان لكاتب (حياتي) أن يقول على نفسه غير الحق، لأنه كتبها وهو واحد من الآحاد البارزين الممتازين في الأدب والفضل؛ فهو غني بجمال حاضره عن تمويه ماضيه، وبصدق واقعة عن تزوير حقه وأما (مذكراتي) أو مزوراتي فهي ترجمة في ثلاثة أجزاء للصحفي السوري المعروف محمد كرد علي؛ كتبها حين رد إلى ارذل العمر وعاد لا يعلم بعد علم شيئاً؛ فهي رواسب من أكدار السنين التسعين تقاطرت على قلمه سوداء كالحقد، نتنة كالغيبة، كدرة كالغضب، فارغة كالإخفاق، فألفت هذه الصفحات المئات، تقرأها فلا تجد أسلوب يمتعك ولو بالزخرف، ولا رأيا يقنعك ولو بالخداع، ولا قصصا يلهيك ولو بالباطل، فتلقى الكتاب من يدك وتسأل: لماذا نشر الرجل على أعين الناس هذا الغسيل الرث الفذر؟ فيجيبك من يجيب: إنها الشيخوخة!
ذكرت (الأيام) حين قرأت (حياتي)، لأن بين الكتابين جهتين جامعتين: هما الاتحاد في صدق الموضوع، والتضايف في جمال العرض وذكرت كتاب كرد على حين قرأت كتاب أحمد أمين، لأن بين الكتابين جهة جامعة ثالثة هي النضاد. فالترابط بين (حياتي) و (مذكراتي) هو الترابط بين الحياة والموت، والصدق والكذب، والطلاوة والغثاثة.
وجد طه حسين وأحمد أمين في نفسيهما وفي تاريخيهما رجلا ومجدا، فحلالا هذا الرجل، وحلالا ذلك المجد؛ أما كرد على فلم يجد في نفسه ولا في تاريخه شيئا من هذين، فحاول أن يخلق الرجل بالدعوى والغرور، وأن يصنع المجد بالاختلاق والزور. ومن قبل حاول القرد أن يقلد علو الإنسان، فتسلق شجرة غيناء من شجر المشمش في (الغوطة)، وأخذ يرمي السابلة بالنوى؛ فإن التفت أحد إليه نب وشب وقال: أنظر! أنا هنا! أنا فوق! ولكن حركات القرد تلهى وتضحك، وكلمت كرد علي تغْني وتمل! كل ما في (مذكراتي) على طولها تفاهة وسفاهة وادء. فمن تفاهتها قوله في (الحورعة) وهي دعوة الحصادين إلى وليمة: (يذهبون إلى حمام (القيشاني) وهناك كتب أفرك ظهور أجرائنا. . .) وقوله: (وكان الكهلات والشابات والعجائز من تلك النسوة، الفلاحات منهن والبلديات، يضممنني إلى صدورهن ويقبلني، وأضمهن وأقبلهم. وأحسن ما كان يشوقني الجلوس في حجورهن