أقرب الموسيقيين إلى الفن من ينغمس في لجج الحياة حتى يصل لأعماقها، ويذوق حلوها ومرها، وابتسامها وعبوسها
وأبقى الموسيقيين على الزمن من يحتقر المادة فلا يشغل نفسه باكتنازها بل يصرف ما في يده في ليلة، حتى إذا تنفس الصبح لم يجد لقمة يسكت بها صراخ أمعائه فلا يكترث ولا يقتصد إذا أصاب بعد هذا يسراً. بل هو لا يتغير، ولا يتدبر، ولا يحسب (للغد) حساباً أبداً ولا يهمه أن يكون أنيقاً رشيقاً بقدر ما يهمه أن يكون أشعث الشعر مهلهل الثوب. لا يكترث لكلام الناس عنه إن كان خيراً أو شراً، لأنه لا يعوج إلا لشيء واحد. هو (فنه). . وزكريا أحمد يعبد الحرية ويقدسها. . يمثل (البوهمية) الفنية أدق تمثيل لا يهمه في دنياه إلا فنه وقلبه.
تربى زكريا تربية دينية، فحفظ القرآن المجيد وألم ببعض علومه ولكن (جرثومة) الموسيقى كانت تسري في دمه فلم يستطع مقاومتها فانظم (كمذهبجي) للشيخين علي محمود، وإسماعيل سكر، وأمضى معهما وقتاً طويلاً، ثم تتلمذ لأستاذنا الشيخ درويش الحريري يأخذ عنه ما عنده من موشحات (وضروب) فأدهش الرجل بذكائه وحسن استعداده وأذنه العجيبة!
آنس زكريا من نفسه المقدرة فرأى أن ينفصل عن الشيخ علي محمود ليكون ملحناً فأخرج السحر الحلال الذي جمع حوله جمهرة المطربين والمطربات يأخذون منه وهو البحر الذي لا ينضب والفنان الذي لا يعجز.
لا يلحن للمال، ولا للفخر. بل يلحن لقلبه وحبه ووحيه الذي يترجم أسمى ما في العواطف من نبل ونور.
ملك (الصبا) غير منازع، وإذا قلنا (الصبا) فإنما نعني اللحن المسيطر على النفوس والمترجم لأشرف ناحية وأسماها من حياة الإنسان وهي ناحية عواطفه، وآماله وآلامه، وتوفيقه وفشله. وهل نستطيع أن ننسى أدواره التي غنتها أم كلثوم:(قلبي كلما تقوى ناره)